Site icon IMLebanon

اليوم الأخير مع رفيق الحريري في قريطم

كان يوم السبت في الثاني عشر من شهر شباط عام 2005، أي قبل يومين من جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري والذي سمّي في ما بعد بيوم «الزيت» المشؤوم نسبة إلى الحملة الأمنية والقضائية التي شنّها ما يسمى بالنظام الأمني اللبناني – السوري آنذاك ضد مسؤولين وموظفين في جمعية التنمية التابعة للحريري لمنعهم من توزيع حصص زيت الزيتون على المحتاجين، يوماً مشهوداً بدلالاته ومؤشراته القاطعة على المكائد وأساليب الترهيب التي كانت تحيكها وتنفذها سلطة النظام المذكور ضد الحريري في تلك المرحلة لتطويق حركته وشل فاعليته الى أقصى حدّ ممكن باعتباره زعيم المعارضة الفعلي بامتياز لمنعه من تحقيق فوز كاسح بالانتخابات النيابية المرتقبة في ذلك الوقت تمهيداً لوضع اليد على البلد برمّته ومصادرة الحياة السياسية فيه، وقد تبيّن في ما بعد أن حملة الملاحقات والتوقيفات تلك في «يوم الزيت» كانت بمثابة التغطية والتحضير لارتكاب جريمة الاغتيال الفظيعة بعد يومين والتي سميت بجريمة العصر في ما بعد.

لم تكن هناك من مواعيد ولقاء مقررة في قصر قريطم في ذلك اليوم الذي كان بمثابة عطلة نهاية الأسبوع عادة إذا لم تطرأ أحداث ولقاءات استثنائية، الأمر الذي أتاح للعاملين في القصر لأخذ قسط من الراحة في طقس شباطي دافئ نسبياً، استعداداً لبداية أسبوع حافل ومشحون مسبقاً بضغوطات التهديد والترهيب ضد الرئيس وحليفه النائب وليد جنبلاط وبقية المعارضين في «لقاء البريستول» الشهير مع تزايد وتيرة الأصوات والمواقف الرافضة لمفاعيل التمديد القسري لرئيس الجمهورية السابق اميل لحود وبالتزامن مع استعدادات النظام الامني المتسارعة لفرض قانون انتخابات جديد أمعنت فيه الأيادي السوداوية للسلطة بشخص المدير العام السابق للأمن العام جميل السيد تقطيعاً وتوصيلاً وضماً وفرزاً لتجمعات طائفية ومذهبية ومناطق معينة تحت عنوان واحد وهو «تحجيم رفيق الحريري سياسياً ونيابياً في الانتخابات النيابية المقبلة».

وقبل حلول الظهر بقليل يوم الأحد المذكور تكهرب الجو المشحون اساساً من قبل، بعدما بدأت أجهزة السلطة القضائية والأمنية حملة ملاحقات وإلقاء القبض على بعض مسؤولي وموظفي «جمعية التنمية» الذين كانوا يشرفون على عملية توزيع زيت الزيتون، واتبعت الحملة بتحضيرات واستعدادات ميدانية لمداهمة مقر الجمعية في شارع فردان بيروت لتعطيل عملية توزيع الزيت ومصادرة الكميات الموجودة فيها، ووضع اليد على لوائح المناطق وأسماء الاشخاص الذين توزع عليهم حصص الزيت، في حين كان الهدف غير المعلن من عملية المداهمة مصادرة كل البيانات ولوائح وتجهيزات الجمعية المولجة بتنظيم الحملات الانتخابية والبلدية وإدارة المعارك الانتخابية في بيروت والمناطق التي كانت تخاض فيها الانتخابات.

وما أن تناهى إلى مسامع الرئيس الحريري من اخبار عن نوايا مبيتة للأجهزة القضائية التي كان يحركها وزير العدل يومذاك القاضي عدنان عضوم بايعاز من رئيس المخابرات السورية في لبنان رستم غزالي لمداهمة الجمعية حتى سارع للحضور إلى مقرها على الفور، ووقف في باحة الجمعية الخارجية وإلى جانبه رئسيها النائب السابق سليم دياب والدكتور غطاس خوري وعدد من المعنيين استعداداً لمواجهة أي محاولة من هذا القبيل بنفسه ووجهاً لوجه، الامر الذي أربك المولجين بهذه العملية وأجبرهم على التراجع عنها خوفاً من تداعياتها السلبية وتجنباً لإثارة الشارع المعبأ ضدهم من الأساس، وسارعوا للترويج بأنه لم يكن بنيتهم مداهمة الجمعية، وبرروا مسألة توقيف بعض مسؤولي الجمعية بأن القانون يحظر تقديم مثل هذه المساعدات قبيل موعد اجراء الانتخابات النيابية لأنها تعتبر بمثابة رشوة لاستمالة واستقطاب اكبر عدد من الناخبين لصالح الحريري والمرشحين المحسوبين عليه، وهذا غير مسموح القيام به. وما أن عاد الرئيس الحريري إلى دارته في قريطم مطمئناً إلى فشل محاولات السلطة المناوئة له بمداهمة مقر جمعية التنمية، وبعدما تلقى اتصالات من بعض الوسطاء تفيد بأنه سيتم الإفراج عن الموقوفين في وقت لاحق بعد اتمام التحقيقات معهم، حتى طلب مني بوصفي مسؤول المكتب الإعلامي التابع له اعداد بيان تفصيلي بالتعاون مع مستشاره الاستاذ محمّد السماك يُؤكّد فيه على أن توزيع مساعدات حصص زيت الزيتون على المحتاجين انما هو من ضمن أموال الزكاة المفروضة على المسلمين شرعاً، والتي كان يحرص على الايعاز بتوزيعها كل عام في شهر رمضان المبارك على المحتاجين كما يعلم بذلك القاصي والداني، في حين ان مبرر تأخر توزيعها لما بعد شهر رمضان في ذلك الوقت مرده الى تباطؤ عملية تسليم المحاصيل وبيعها للتجار ومن ثم توزيعها.

ولدى عرض مسودة البيان عليه، انكب على اجراء تعديلات أساسية لثلاث مرات متتالية، وأضاف اليه عبارات ونصوصاً دينية محددة وهادفة في الوقت نفسه، وأصرّ على تدوين التعديلات المطلوبة بخط يده وبكل وضوح وليس شفوياً كما درجت العادة على ذلك، وهو أمر نادراً ما يحصل في مثل هذه الحالات. وقد توخى من وراء إصدار هذا البيان بخصوص عملية توزيع زيت الزيتون الرد على سلطة النظام الأمني بأن الأمر يندرج في اطار توزيع اموال الزكاة وليس في إطار رشوة الناخبين.

وبعد الانتهاء من صياغة البيان وتوزيعه على وسائل الإعلام، أصرّ الرئيس الحريري كعادته على سؤال كل الحاضرين فرداً فرداً عن رأيهم بمضمون البيان، وكان بينهم الزميل سمير منصور الذي حضر لبعض الوقت مستفسراً عمّا حصل، وغادر بعد قليل، ثم اقتصر الحضور عليّ وعلى زميلي في المكتب الاعلامي محمود فواز مع الرئيس الحريري الذي أصرّ على سؤال كل منا بمفرده عن رأيه بما جرى في ذلك اليوم وتقدير مؤشراته وأبعاده ومراميه، وهو امر اعتاد عليه في مقاربته للعديد من المسائل والأمور التي كانت تطرح طوال مسيرته السياسية.

وكانت جلسة نقاش طويلة لكل ما يحصل في البلد، استهلها بالسؤال عن رأينا بما حصل في ذلك اليوم؟

 أجبته شخصياً أن حملة السلطة القمعية بهذا الشكل تؤشر إلى نوايا خبيثة ومبيتة ضدك وضد حلفائك الذين يزدادون عدداً ويلتفون من حولك أكثر من أي وقت مضى بعد «لقاء البريستول» وتعالي الأصوات المطالبة بانسحاب القوات السورية من لبنان ورفض التمديد للرئيس اميل لحود.

سألني مجدداً «لوين بدن يوصلوا؟».

أجبته: نحن في بداية معركة طويلة وصعبة، بدأت معالمها بالظهور من خلال فرض التمديد بالقوة، ولكن ما يقوم به النظام الأمني وأزلامه هي ممارسات غبية إلى حدّ ما، لأنها أدت عملياً إلى إعادة شد العصب الشعبي تجاهك وزيادة تعاطف الناس معك مقابل تنامي الكراهية لتصرفات السلطة على هذا النحو.

سأل: كيف؟

 أجبته قائلاً: يا دولة الرئيس بالمختصر المفيد ما حصل اليوم وفّر عليك عناء القيام بالحملات الانتخابية المعتادة، لقد ربحوك الانتخابات سلفاً قبل اجراء الانتخابات النيابية جرّاء ممارساتهم الاستفزازية ومواقف حلفائهم ضدك وضد حلفائك.

ثم سأل الحريري الزميل فواز وقال له شو رأيك أنت يا محمود؟

 فأجابه قائلاً: هيدي رسالة واضحة وخطيرة وموجهة إليك بشكل مباشر، ولا بدّ من التعامل معها على هذا الأساس وعدم تجاهلها على الإطلاق، ويبدو انهم مستمرون في المواجهة ضدك حتى النهاية.

ثم استرسل الرئيس الحريري بالكلام عن الانتخابات وتوجهاته وفي كيفية التعاطي مع المرحلة المقبلة بكل تحدياتها، وقال: «سأخوض الانتخابات النيابية في كل المناطق أياً كان القانون الذي سيفرضونه بالقوة»، مشيراً الى انهم (وكان يُشير إلى رستم غزالي وجميل السيد) بدأوا يستدعون بعض النواب المترددين ويبلغونهم بلغة التهديد المعهودة بوجوب حضور جلسات إقرار قانون الانتخابات الجديد، وإلا سيحرمونهم من نعمة التأييد المعهودة لهم. وكرر انه سيترشح عن الدائرة الأصعب، قاصداً «الدائرة الثالثة في بيروت» التي كانت تضم خليطاً من مناطق وتجمعات طائفية ومذهبية معينة وليست متصلة جغرافياً ببعضها البعض باعتبارها مؤيدة لتحالف النظام الامني وحلفائه أو بغالبيتها على الأقل، حسب تقديرات «عقل» النظام جميل السيد كما كان يسميه آنذاك، والهدف من وراء ذلك منع الرئيس الحريري من إيصال اي مرشح من حلفائه الى مجلس النواب الجديد.

وتحدث بعد ذلك عن علاقاته مع سوريا وقال الرئيس الحريري: «نحن بكل صراحة، نريد أفضل العلاقات مع الشقيقة سوريا، ولكن هذا لا يعني اننا نقبل بالواقع القائم وبالتدخل المتواصل في الشؤون الداخلية للبنان. نحن حريصون على استقلال وسيادة واستقرر بلدنا وصيغة العيش المشترك بين جميع اللبنانيين، وهذا المطلب يؤيده غالبية اللبنانيين».

وقال: هناك من يعمل ليلاً ونهاراً على بث الفرقة بيننا ومن نمثل مع المسؤولين السوريين وكان يقصد بذلك «اميل لحود وزمرة الأجهزة» وهم يبنون سياساتهم وعلاقاتهم على اخبار وتقارير ملفقة ودسائس لا تتوقف، وتساءل قائلاً: «لمصلحة مَن تردي العلاقة بين لبنان وسوريا على هذا النحو؟».

وأشار إلى مرحلة السنوات السابقة وقال: «كلما كنا نحاول النهوض بالبلد، كانوا يعطلون محاولاتنا باستمرار ويتلفون على كل ما نقوم به من جهود في هذا السبيل، مشيراً بذلك إلى التعطيل المتعمد لكل الإصلاحات المطلوبة في إطار مؤتمر باريس 2 وغيرها من الخطوات المطلوبة لتقليص حجم الدين العام، وتنفيذ سلسلة من المشاريع الإنمائية للنهوض بالبلد».

وأضاف قائلاً: «موقفنا من عملية السلام ثابت ولن نغيره أبداً مهما بلغت الضغوطات وتبدلت الظروف. لبنان لن يوقع أي اتفاق سلام منفرد مع إسرائيل. فإما أن نوقع سوية مع سوريا أو لا نوقع على الإطلاق، وحتى اذا انسحب الجيش السوري كلّه من لبنان ولم يبق أي جندي سوري، سيبقى موقفنا ثابتاً ولا نبدله بتاتاً لأنه نابع عن قناعة راسخة وليس موقفاً ظرفياً».

استمرت جلسة النقاش المتواصل اطول من أي جلسة أخرى، وامتدت حتى ساعات المساء بلا توقف، وبدا خلالها الرئيس الحريري منشرحاً ويطلق النكات من وقت لآخر، وفتح قلبه بعفوية وبلا قفازات، وخاض بكل المسائل والقضايا المطروحة برغم ما حصل في ذلك اليوم وقبله، وكان متيقناً من الفوز بالانتخابات النيابية المزمع إجراؤها بعد اشهر معدودة «لأننا اصحاب مشروع متكامل للنهوض بالبلد من كل النواحي» كما قال، ولأنهم، وبذلك يشير إلى خصومه في سلطة النظام الأمني اللبناني – السوري، لا يملكون سوى التهديد والترهيب وتخريب البلد وهم يعملون ضد مصلحة لبنان وسوريا على حد سواء.

وكانت تقطع جلسة النقاش الفريدة من نوعها اتصالات هاتفية تَردْ من سياسيين وأصدقاء وحلفاء يستفسرون من خلالها عمّا حدث في ذلك اليوم، وكنا كلما حاولنا استئذان الرئيس الحريري بالانصراف كان يرفض ذلك ويقول: «لوين رايحين وتاركيني لوحدي، قعدوا بعد بكير»، ويبدو انه أراد الاستئناس بوجودنا، أو «أن حدسه الداخلي كان يهمس له بأنه لن يرانا مجدداً»، ولم يفك اسرنا إلا عندما وصل إلى قريطم مسؤولو «جمعية التنمية» الذين كانوا اوقفوا صباحاً، فانفرجت أساريره واستقبلهم بترحاب كبير وهنأهم بالسلامة وجلس يدردش معهم عن ملابسات التوقيف وما حصل معهم.

وشاء القدر أن لا نرى الرئيس رفيق الحريري بعد هذا اليوم الحافل الا بلمحة عابرة يوم لأحد في 13 شباط بعد لقائه النائب وليد جنبلاط، وتم اغتياله يوم الاثنين في الرابع عشر من شباط 2005، بطنين من المتفجرات ظلماً وعدواناً في جريمة ارهابية سميت بجريمة العصر، وبعد عشر سنوات ما زالت دماؤه الزكية تحرق زمرة نظام بشار الأسد القاتل لشعبه وتحاصر سائر المتهمين بالاغتيال في الضاحية الجنوبية لبيروت.