IMLebanon

آخر مراوغات بوتين… «إدخال الأسد لإخراجه»

يخوض الإعلام الإيراني، وكذلك الروسي، فضلاً عن إعلام النظام السوري، حرباً نفسية لاستباق حملة عسكرية مزمعة على حلب وسهل الغاب، فتُصوَّر كما لو أنها نزهة. واقعياً، ستكون مذبحة كبرى، للطرفين، بمعزل عمّن يمكن أن يحسم المعركة في النهاية، ولمَن، ومن أجل ماذا. لا تقاتل الأطراف الثلاثة بجنودها، فالاعتماد الأساسي على الغطاء الجوي الذي تستخدم فيه روسيا مقاتلاتها وآلياتها لا رجالها، أما إيران فتزجّ بميليشيات شيعية من جنسيات مختلفة تؤويها وتدربها فيما يتولّى ضباطها القيادة، ويقدّم النظام ميليشيا درّبها الإيرانيون لتكون رديفة لقواته بالإضافة إلى ضباط يوفّرون المشورة ميدانياً. ورغم سياستَي الأرض المحروقة والإبادة اللتين يتّبعهما القصف الروسي، إلا أن المواجهة الفعلية ستكون برّية.

هذه معركة تعتبر موسكو أنها حققت فيها حتى الآن جانباً مهماً من الأهداف التي رسمتها: إعادة تعويم النظام واعتماد الحسم العسكري لتغيير المعادلة الداخلية، فرض تغيير استراتيجي في «الحرب على داعش» بالتحالف مع إيران لخوض المعارك البريّة بموازاة الضربات الجويّة، والأهم وضع «التحالف الدولي» بقيادة الولايات المتحدة أمام حقيقة الفشل الذي بلغه وهزّ صورته لدى حلفاء اقليميين سواء باجتذاب إسرائيل إلى التنسيق عبر «خط ساخن» أو بالعمل على ترهيب تركيا بزعزعة أمنها واستقرارها لحملها على التعاون مع «الحلف الرباعي» (أو الخماسي، مع إسرائيل). أما دمشق وطهران فتريان للمرّة الأولى، وبفضل التدخل الروسي، إمكان استعادة السيطرة وإعلان انتصار «محور المقاومة والممانعة» على «المؤامرة» التي تصفانها حالياً بـ «السعودية – التركية» ولم تعد «أميركية – إسرائيلية» لأنهما أصبحتا بالتبعية شريكتَي إسرائيل، في حين أن الجانب الأميركي من «المؤامرة» كان، بفضل روسيا وإسرائيل، دائم الانضباط لمصلحتهما.

ستكون معركة حلب وسهل الغاب بالنسبة إلى النظامين السوري والإيراني خطوة أولى على الطريق إلى خطوط التماس مع تنظيم «داعش»، ليصبحا رأس حربة في محاربة الإرهاب ضمن «التحالف الروسي» ورغماً عن «التحالف الأميركي» الذي رفض التعاون معهما. بل ليصبحا بالأحرى أمام انكشاف حقيقة التناغم بينهما وبين حليفهما الموضوعي – «داعش» – الذي يهاجم حالياً فصائل المعارضة محاولاً الاستيلاء على مناطق في ريف حلب الشرقي. وإذا استطاع النظامان إحراز تقدّم فسيتيحان لأكراد الريف الشمالي – الغربي امتداداً إلى حي الشيخ مقصود، التابعين لـ «حزب الاتحاد الديموقراطي» (الفرع السوري حزب العمال الكردستاني)، الجهر بارتباطاتهم السياسية، وبذريعة التقاء مصالح نظامَي دمشق وطهران مع المصالح القومية للأكراد ضد تركيا. فبموازاة الاستعدادات لـ «المعركة الكبرى» تساهم هجمات «داعش» من الشرق في إشغال فصائل المعارضة وإنهاكها، فيما تشهد هدنة منتصف أيلول (سبتمبر) الماضي مع الأكراد خروقات تعيد التوتر على طريق الكاستيلو، الشريان الحيوي لحلب وبوابتها الشمالية، وتستهدف المدنيين خصوصاً، كما لو أنها تساهم في الحرب النفسية.

قد لا تكون المواجهات الأولى، بما فيها من كرّ وفرّ، ذات دلالة، لمس مقاتلو المعارضة أن الذين في مواجهتهم ليست لديهم إرادة قتالية بل يعتمدون أولاً وأخيراً على القصف الروسي، وأمكن قوات إيران والنظام بدورها أن تختبر استعدادات المعارضة ومدى تكيّفها مع القصف الجويّ للحدّ من خسائرها وتنظيم انسحاباتها ثم عودتها. ما ينقص المعارضين هو ما افتقدوه دائماً، أي مضادات الطيران، ولا يبدو أن الأميركيين اقتربوا من إعطاء الضوء الأخضر لتوفيرها ولو لمعارضين يعرفونهم. عملياً، كان حجب المضادات ولا يزال من المؤشرات الجلية إلى أن واشنطن غير معنيّة أولاً بتخفيف المخاطر على المدنيين رغم مداومتها على إدانة البراميل المتفجّرة التي قتلت آلافاً منهم، وغير مهتمّة ثانياً بتمكين المعارضة من أي انتصار فيما تواظب على رفضها النظام. هذه هي الصورة التي تختزل سياسة باراك اوباما، وهي الثغرة التي أبقتها لروسيا كي تدخل منها إلى سورية وتفاقم أخطاراً طالما تذرّع بها اوباما لاستبعاد أي تدخّل أو لتبرير «اللاسياسة» السلبية التي شكّلت مساهمته في تخريب سورية، وستبقى لعنة سوداء في إرثه.

في انتظار الحسم، وهما انتظارٌ وحسمٌ يصعب التكهّن بأجَلهما، تتضارب التوقعات بالنسبة إلى سير القتال والنتائج. كانت موسكو أشارت أكثر من مرّة إلى أن مهمتها تستمر لثلاثة شهور. وقال الرئيس فلاديمير بوتين أخيراً أن العملية «محدودة زمنياً» لكنه ربطها بمسار المعركة البريّة، مؤكداً بذلك أولوية ضرب المعارضة. لا شك في أن الإيحاء بمهل سريعة وقصيرة يخاطب الداخل الروسي ويضغط على الحليفين الإيراني والسوري، فيما يتوجّه إلى الأطراف الأخرى بأنه سينتقل قريباً إلى البحث في الجانب السياسي. سيكون مضطراً لتمديد هذه المهلة ولن يجد صعوبة في التبرير، لكنه سيحافظ على شرطه عدم إرسال جنود روس إلى الأرض، إلا إذا كانت لديه هو الآخر قوات «رديفة» من «الجمهوريات» التابعة لروسيا. لم يتحدّث بوتين عمّا بعد، عمّا قال أنه الدافع الأساسي للتدخل في سورية، أي «الحرب على داعش»، ربما لأنه غير متيقّن مما سيحصل قبلها. فهو لا يريد حرباً طويلة تضاعف كلفته، ولعله تلقّى أكثر من تقدير للموقف يرجّح أن التدخل الروسي نفسه يطيلها.

لم يكن الوضع السوري يحتاج إلى أي تدخل خارجي يزيده تعقيداً وخراباً، فالنظامان السوري والإيراني قاداه بتهوّر خالص إلى هذا الواقع. وبالتالي فإن بوتين باختياره السير في ركاب الخطط الإيرانية لا يمكن أن يدّعي أنه جاء لإنهاء الأزمة بل لمضاعفة القتل والدمار، سعياً إلى مساومات لن تكون لها سوى علاقة جزئية بسورية. وإذا كان أرسل قواته الجويّة بنيّة تعظيم نفوذه في الشرق الأوسط فإنه يخطو حالياً نحو تخريب المنطقة من دون أن يضمن فيها أي نفوذ، بل يمكنه أن يضمن أنها ستصبح لعنة على روسيا كما كانت افغانستان سابقاً. يكفي أن يعرف أن أخطر ما في الحرب البرّية التي يعوّل عليها، ثم الحرب على «داعش» التي يعتزمها، يخوضها الإيرانيون والأسديّون بمنحى طائفي – مذهبي ليس خافياً على أحد. بل يكفي أن يقرأ في التقارير أن قوات الأسد لا تختلف عن أي ميليشيا وأنها لم تتصرّف كـ «جيش دولة» مع أي منطقة دخلتها أو استعادتها بل كقوات غازية، فكيف يسوّغ غزوها مع «مرتزقة» الإيرانيين مناطق ذات غالبية سنّية وماذا ينتظر منها، أم أن مَن سحق شعب الشيشان سحقاً لا يرى غضاضةً في سحق الشعب السوري.

الأكيد أن ثمة تهوّراً في عقل بوتين وخططه الإيرانية لا يقل عن تهوّر جورج دبليو بوش والخطط التي استوحاها يمينه المتعصّب من خبراته الإسرائيلية. كان المسار السياسي الذي روّج بوتين أنه يريد تفعيله ينطوي على أفضل أطروحات سيئة، ومع ذلك استعد كثيرون للتعامل معها بإيجابية، على أمل الخروج من الانسداد الذي بلغه الوضع السوري. وإذا بالرئيس الروسي يختار الحسم العسكري لمصلحة بشار الأسد، آملاً في أن يصدّقه مَن زاروه أخيراً حين راوغهم بالقول أن «لا بدّ من إدخال الاسد لإخراجه»… كان الأميركيون تعاونوا مع العرب لمواجهة السوفيات في افغانستان ثم تركوا فيها لغم «الأفغان العرب» الذي صار «القاعدة» لاحقاً، ثم واجهوا «القاعدة» في العراق وتركوا لغماً أكثر خطراً هو «داعش»، ورغم أنهم لم يواجهوا النظام ولا إيران ولا «داعش» في سورية إلا أن الروس جاؤوا لمواجهتهم وبالأخص للمساهمة في إنتاج ارهاب «ما بعد داعش». كما لو أنهم جميعاً، أميركيين وروساً واسرائيليين وإيرانيين، يتقصدون استفزاز العالم العربي، بالأحرى «السنّي»، للذهاب إلى ما لا يريده: الانزلاق في التطرّف والارهاب. وكما سمع بوش سابقاً تحذيرات عربية من تداعيات غزو العراق ولم يأخذ بها، كذلك سمع بوتين تأكيدات عربية بـ «إننا معكم ضد داعش، ومعكم في حل سياسي في سورية، أمّا إذا كان تحالفكم مع إيران يلزمكم بما تفعلون الآن في سورية فإنه لا يُلزمنا».