تهاوى «داعش». وانهياره لا يصيب كياناً سياسياً وتنظيمياً وفكرياً، بل يهشّم فئة من المجمتع العربي منتشرة اليوم بين بلاد العرب جميعاً. والإحباط الذي يصيب المنضوين في هذا التيار لا يقل قساوة عنه الإحباط الذي يصيب المؤيدين له أو المراهنين عليه. والحديث، هنا، ليس عن قوى وجهات سياسية ودولية، بل عن جمهور يجب البحث معه عن حلول تعيد تنظيم العلاقات الإنسانية في مساحات واسعة من الأراضي في سوريا والعراق ولبنان، وبما يسمح بمداواة جروح عميقة، بعضها قائم منذ ما قبل ظهور «داعش»، وبعضها الآخر رافق صعوده العجائبي وانهياره السريع أيضاً.
لنضع جانباً المغالاة أو المزايدات القائمة من جمهور وقوى يريدون تصفية كل من له صلة بهذا التنظيم، لأن أصحاب هذه الوجهة بينهم من يريد إزالة كل آثار الجريمة، كي لا تظهر مشاركته فيها، لكن هؤلاء أقلية. أما الأكثرية، فهم يتصرفون بتوتر ورعونة تجعلهم في مصاف «داعش» من حيث آلية التفكير والقرار. والذين يدعون الى الإبادة الشاملة، يتجاهلون أنهم يتحدثون عن مئات الآلاف من العناصر والمؤيدين والأهل والأفراد. ويتجاهلون حقيقة أن بعض الذين ناصروا هذا الفريق عن اقتناع، إنما يعيشون اليوم أسوأ أيامهم مع هذه الهزيمة المدوية. وعقابهم لا يكون بإبادتهم، ولا بتشريد عشرات آلاف العائلات من نساء وأطفال ومسنّين، من الذين لا ذنب لهم سوى أنهم عائلات هؤلاء المسلحين.
هل من إمكانية لعلاج؟
طبعاً، هناك ألف طريقة للعلاج. وما يجري تناقله عن واقع الجبهات التي ينهار فيها «داعش» يفتح الباب أمام علاجات مقبولة الآن، ويقوم على فكرة استسلام العسكريين منهم، وترتيب أوضاع المدنيين منهم كي يعيشوا بعيداً عن منطق الثأر والانتقام. وهي مسؤولية الحكومات أولاً، ومسؤولية القوى الفاعلة على الأرض ثانياً، ومسؤولية عقلاء هذه البيئة ثالثاً. أما من يريد انتظار المجتمع الدولي والدول الكبرى والنافذة إقليمياً ودولياً، فهي جهات لم تهتم أصلاً عندما قام هذا التنظيم، ولا هي تهتم لسقوطه، ولا هي تبحث في الانعكاسات الاجتماعية والإنسانية الناجمة عن المعارك الطاحنة القائمة، بل هي جهات تفكر فقط في الاستثمار المباشر، سواء خلال المعارك أو ما بعدها.
بناءً على هذا، يجب مناقشة كل من عارض التسوية التي أبرمها حزب الله مع قيادة المسلحين لمعالجة ملف الحدود اللبنانية ــ السورية. والنقاش لا يخصّ اللبنانيين من الذين لا يملكون سوى الصراخ، بل يخص السوريين والعراقيين، حيث المشكلة الأكبر، وحيث المسؤولية أكبر أيضاً. وهو نقاش يجب أن تشارك فيه إيران وتركيا والأردن وروسيا بقوة، وأن يكون هناك تفاهم واقعي، وعقلاني، يتيح احتواء مناخات ما بعد «داعش»، وهو أمر ممكن وفي الإمكان تحقيقه.
في هذا السياق، من المفيد مراجعة موقف القيادة السورية. ومثلما شرح السيد حسن نصرالله عن الإحراج الذي يشعر به الرئيس بشار الأسد والقيادة السورية جراء عقد صفقة مع تنظيم مثل «داعش»، إلا أن الموافقة السورية على التسوية وعلى ضمان تنفيذها داخل الأراضي السورية، تعطي الإشارة للبيئة الحاضنة لهؤلاء بأن فكرة الدولة الراعية لا تزال تتحكم بعقل القيادة السورية. وأن دمشق، والجيش السوري، والموالين للدولة والنظام، من الذين تعرضوا لأبشع الجرائم على يد إرهابيي «داعش»، يتصرفون بمسؤولية أنهم يريدون استعادة البلاد والعباد. وهذا يعني، ببساطة، أن دمشق جاهزة لنقاش يقود الى تسوية تمنع حروب الإبادة.
أما في العراق، فإن الذين يبكون على «داعش» في الجانبين المتنازعين سياسياً، هم الوجه الآخر لـ«داعش»، إذ يتبنّون الأفكار والخرافات والأساطير التي لا تقود الى حلول ولا إلى حياة مستقرة. ومن يرفض التسوية مع «داعش» لا يكون جالساً في حضن آل سعود، وهم الأهل الشرعيون لهذا التنظيم الإرهابي. ومن يرد للمقاومة وسوريا وإيران عدم التساهل مع هذا التنظيم، عليه أن يكون حاضراً أصلاً في جبهات القتال، وليس متنقلاً بين عواصم الدول الراعية للإرهاب، خاطباً الود من أجل مكاسب تافهة في بلاد الرافدين.
ما هي إلا اسابيع قليلة جداً، حتى يكون بمقدور الجميع مراقبة شريط يجمع جانبي الحدود بين سوريا والعراق، وعلى امتداد يتجاوز المئة كلم، وبعمق يتراوح بين 25 و35 كلم، حيث يوجد هناك نحو نصف مليون من البيئة الحاضنة لهذا التنظيم، إضافة الى عناصر التنظيم وعائلاتهم. فكيف يكون العلاج معهم؟
هل يمكن طردهم الى السعودية وقطر والإمارات والأردن، أو تسفيرهم الى الولايات المتحدة وأورويا؟
هل يمكن محاصرتهم وتجويعهم وترك الموت ينهش بهم، عسكريين ومدنيين ومن هو أعزل منهم؟
هل يجب القيام بعملية حرق جماعية، تسمى في العلوم كافة الإبادة الشاملة حتى يرتاح من هو غاضب من هذه التجربة؟
بالتأكيد، هناك خيار آخر، وهو خيار دفعهم بالقوة نحو الاستسلام، وإطلاق عملية احتواء مركزة، فيها مصالحات وفيها عقوبات وفيها إفساح المجال أمام الناس ليعودوا إلى طبيعتهم بحثاً عن مستقبل أفضل.
وكل كلام آخر، هو جنون بجنون!