«لم يكن في الإمكان أفضل ممّا كان». ذلك هو الاستنتاج الذي يمكن التوصل إليه بعد إقرار الموازنة التي تمت مناقشتها وسط جو مشحون وحراك غير مسبوق مارس فيه قدامى العسكريين ضغطاً هائلاً تمكنوا، في نتيجته، من تعديل بنود معيّنة بما حافظ على الكثير الكثير من مكتسباتهم… ومن بعد، يشهد للعميد المتقاعد جورج نادر أنه أدار بإمتياز كبير وبمسؤولية وطنية، «التخريج» الذي آلت إليه التسوية. والعميد نادر واحدٌ من أبرز ضباط الجيش وقد كان مجلياً في المجالات العسكرية الميدانية والإدارية قائداً مغواراً مشهوداً له بالمناقبية والانضباط. ولا نعرفه على صعيد شخصي إلاّ أننا نعرف عنه الكثير.
ولقد تكشف مخاض ولادة الموازنة عن ظواهر «خارقة» وتقاليد جديدة، مثل كل شيء في الأحوال التي آل إليها هذا الوطن في هذا الزمن الذي أكثر ما يصح في أحواله المثل السائر: «الطاسة ضايعة». وإلاّ كيف نفسر الظواهر الآتية غير المألوفة في تاريخنا منذ قيام الجمهورية البرلمانية وحتى اليوم؟
أولاً – من كان يخطر له في بال، مجرد خاطر عابر، أننا سنصل الى يوم يعزف فيه القضاة عن ممارسة مسؤولياتهم، فيلجأون الى «الاعتكاف» في لفظة مخففة عن «الإضراب»؟
ثانياً – من كان يحلم، مجرد حلم/كابوس، أننا سنرى آلاف الضباط (كبارهم قبل الصغار) يعتصمون في الشارع، ويقطعون الطرقات، ويفترشون الإسفلت ويشعلون الإطارات، ويحاولون اقتحام المجلس النيابي، ويتلفظون بعبارات وشتائم ليست مألوفة في مدرسة الانضباط الأولى في لبنان أو يوجهون الى الوزراء والنواب والسياسيين أكثر التهم شناعة، ويصطدمون مع العسكريين والأمنيين في الخدمة المولجين حماية أمن مجلس النواب والسراي الكبير؟!
ثالثاً – من كان يتصور أن جلسات مناقشة مواد وبنود الموازنة العامة في مجلس النواب سيتخللها مشهد (يتكرر) لوزراء يوجهون الانتقادات الأكثر مرارة لما شاركوا في إنجازه في مجلس الوزراء، وقد بزّوا في سلبيتهم تجاه الموازنة نواب «المعارضة»؟!
رابعاً – من كان يُخيل إليه أن نواب «المعارضة» لم يجدوا في مواد الموازنة وبنودها مادة واحدة وبنداً واحداً يستحق التنويه به؟! فقط مادة واحدة! وفقط بند واحد؟!
خامساً – (…) ولقد تبين للبنانيين أن:
١- الشعبوية ضاربة أطنابها لدى البعض حداً غير مسبوق، وغير مقبول وطبعاً غير مقبول من المزايدات والديماغوجية والغنج والدلال.
٢- وأن البعض (وربما الكثرة) من متعاطي الشأن العام في المسؤولية الرسمية وخارجها لا يعرفون شيئاً عن هذا الوطن وتاريخه وممارسة السياسية فيه.