هناك شيء جيد في الموقف الاميركي السيئ: إكتشفت إدارة أوباما أخيراً، أن السياسة الخبيثة إزاء سوريا صارت ضربا من ضروب الغباء ولم تعد تؤدي وظيفتها. والأمر طبيعي ومفهوم: الفارق بين الخبيث والكذاب هو الفارق بين الذكي والغبي. انكشاف الخبيث يحيله كذاباً. وكذاب ذكي (أو متذاكي) أحسن من خبيث غبي. أو هكذا على ما أظن، (العلم عند الله) هو ما تحاول تلك الادارة الآن قوله للسوريين والعرب والمسلمين بل للعالم كله، عشية دخول الثورة السورية على النظام الفئوي البعثي المافيوزي، عامها الخامس.
ما قاله وزير الخارجية كيري بالأمس هو ذاته تقريباً ما قاله مدير الـ»سي.آي.إي» جون برينان قبل الأمس، وما سبق أن تسرّب عبر «نيويورك تايمز» في منتصف الشهر الماضي.. وما كان معروفاً على المستوى الرسمي لدى كل المعنيين في المنطقة والعالم، وما كان ملموساً لمس اليد عند أي مراقب أو معني بالثورة السورية، وخصوصاً منذ آب 2013 وتراجع الادارة الاميركية عن معاقبة الاسد على استخدامه السلاح الكيماوي في الغوطة الدمشقية وفي غيرها من مواقع ثبت انه استخدم فيها ايضاً اسلحة محرّمة دولياً!
الفارق بين الخبيث والكذاب، أظهره تصريح كيري عن ضرورة «محاورة» الاسد. وقول برينان ان أحداً لا يريد إخلاء الساحة كي تأتي «داعش» وتملأها. وقول «نيويورك تايمز» ان الاسد انتصر.. باعتبار ان ذلك كله، ينهي الازدواجية الخبيثة القائمة على قول شيء والتصرف بعكسه. أو على الايحاء بالرغبة في دعم «القوى المعتدلة» فيما الواقع يذهب باتجاه سياسات لم تؤدِ ولا تؤدي سوى الى دعم القوى المتطرفة.. وبالنتيجة إبقاء سوريا في النار والمساومة على رمادها مع الايراني تحديداً!
لكن بديل ذلك الخبث هو كذب موصوف: إدارة اوباما تعرف أكثر من كل العالم، ان الاسد فعل ماض! ولم يعد قادراً حتى على التحكم بالعصبة المحيطة به. وبالتالي بدلاً من ان يقول كيري انه يفتح بازار التفاوض مع إيران على مصير سوريا، يكذب ويقول بضرورة «محاورة» الاسد للوصول الى حل سياسي! وبدلاً من أن يقول برينان ان إنهاء بقايا سلطة الاسد ينهي أو يحجم ويقزّم «داعش» مثلما حصل في العراق مع إنهاء سلطة المالكي، يكذب ويقول ان المفاضلة صارت بين السيئ والأسوأ!
ومثال العراق بالمناسبة، حمّال أوجه. إذ يُظهر وكأن إدارة أوباما تكذب عندما تقول إنها تحارب الإرهاب بالمطلق لأنها على ما يبدو، لا تحارب إلاّ الإرهاب الذي تفترضه ضاراً بمصالحها، أما إذا كان متلائماً مع تلك المصالح، فلا مشكلة لديها معه! إلا إذا كانت تفترض ان الميليشيات الطائفية التي تسيّرها إيران، تمارس تمارين على الديموقراطية الصحيحة، من خلال التنكيل الاجرامي المخزي بالمدنيين العراقيين في محافظتي صلاح الدين والأنبار، بل وحتى في بغداد نفسها!
أصغر ولد سوري يعرف ما عرفته هيلاري كلينتون وتشاك هيغل وروبرت فورد والرئيس الفرنسي هولاند وكل مسؤول اقليمي أو دولي معني، من ان سياسة أوباما التي لم تساعد القوى المعتدلة مثل «الجيش الحر» والائتلاف الوطني المعارض ولم تسمح لأحد بمساعدتهما فعلياً والتي تركت الاسد يرتكب جرائم الإبادة على هواه، وتركت الإيرانيين «يطوّرون تدخلهم المذهبي في سوريا الى مداه، هي التي غذّت وأنتجت القوى المتطرفة والإرهابية، ما جعل ويجعل من التفتيش عن حل سياسي ضرباً من ضروب الاستحالة التامة.. ثم يأتي كيري ليتحدث مجدداً عن «جنيف واحد»!
ما يُفترَض ان تعرفه إدارة أوباما، هو أن الثورة السورية لم تندلع نتيجة لقرار اميركي، كي يكون إنهاؤها، نتيجة لسياستها الخبيثة تارة والكاذبة تارة أخرى..