إنها سُنّة الحياة… البطريرك صفير، وقد مدّ الله بعمره إلى حدود المائة عام، ودّع الحياة الدنيا تاركا في بلاده ولدى مواطنيه على اختلاف انتماءاتهم جملة من الانطباعات الجليلة التي تحلّى بها هذا الرجل الفذّ الذي قُدّرَ له أن يتبوأ السدّة البطريركية، فأشع وجوده من خلال دوره الرائد فيها بجملة من الصفات الإنسانية والدينية والوطنية التي رسخت قامة متميزة في التاريخ اللبناني الحديث مسجلة له أنه أدار شؤون الكنيسة المارونية بنجاح رعوي وروحي ملحوظ، وأسفرت ممارساته عن شخصية فذة بالغة التواضع تغمرها الحكمة وسعة الأفق والشجاعة في تحدّي الصعاب ومجابهة الأخطار ومعالجة الأضرار وقد تميزت فترة ولايته برفعه الدائم والمستمر لراية العيش المشترك والوحدة الوطنية وتآلف الأديان والمذاهب، دون أن ننسى أنه كان الداعم الأساسي لمؤتمر الطائف ومقرراته.
وهو صاحب القول المشهور الذي أطلقه في أحد خطاباته: لو تنبه المسيحيون لشكاوى المسلمين، لما وصلت أحوال البلاد إلى هذه الأحوال من التدهور، وأن مسؤولية الحفاظ على العيش المشترك وديمومته، يقتضي من وجهة نظره، أن تكون على عاتق المسيحيين، وقد تجلّى ذلك كله في موقفه الصارم من تحكم النظام السوري بلبنان أرضا وشعبا ومؤسسات، رافضا زيارة سوريا ومقابلة مسؤوليها رغم محاولات حثيثة بذلت بهذا الصدد.
دون أن ننسى دوره في مصالحة الجبل التي اعتبرها النظام السوري عملا معاديا لوجوده على هذه الساحة اللبنانية المنكوبة، وبالرغم من أن الرئيس الشهيد رفيق الحريري قد أوصلته الظروف العربية والدولية فضلا عن كفاءاته المتميزة، إلى موقع السلطة في لبنان، وبالرغم من أن النظام السوري قد مكنه من ذلك في بداياته اللبنانية إلاّ أنه مع تطور الأوضاع، سريعا ما بينت ممارساته العملية شديدة الدقة والتخطيط والجرأة، أنه ومع توالي الأحداث، وثبوت النوايا السيئة للنظام السوري ووصايته المفروضة، كان يعمل بهدوء مبطن ومن ثم بكثير من الوضوح والعلانية، على توحيدة الكلمة اللبنانية وإعداد الموقع اللبناني للتحرر من سطوة سورية متفاقمة ازدادت مع الوقت حدّة وبطشا وصولا إلى جملة من الإغتيالات وصلت إلى حدود اغتيال الرئيس الشهيد نفسه ظنّا من النظام أنه قادر على قمع أية تحركات ناتجة عن هذه الجريمة، وهكذا، قدر للبنان آنذاك أن يتخلص من الوجود السوري المتحكم بعد أن اضطرت قواته ومخابراته إلى الإنسحاب الكامل وبروز حركة 14 آذار بتوحد وطني متميز وغير مسبوق لم يكن الراحل الوطني الكبير البطريرك صفير بعيدا عنه وعن تبنيه ومواكبته والمساعدة على تهيئة الأجواء التي تمكنه من النجاح.
ولئن غابت سوريا بثقلها الفاعل عن الساحة، فقد فوضت لحزب الله ولواحقه وانتماءاته الإيرانية متابعة الوضع اللبناني بديلا عنها، وقد كان للبطريرك صفير دور رافض ومعارض لتوجهات الحزب وثبوت انتمائه إلى الخارج (سوريا وإيران) فكانت مواقفه وتصريحاته وأدواره السياسية ضمن طائفته وفي الإطار الوطني العام والداعية إلى حصر السلاح بيد الجيش اللبناني ورفض قيام دويلة إلى جانب الدولة، وبعد أن حقق تجمع 14 آذار معجزة التوحد الوطني، تمكن تجمع 8 آذار من استغلال الوقت والخلافات المستجدة في أوساط 14 آذار، وبكثير من الحنكة السياسية لقيادته وللإشراف الإيراني على أوضاعه، ونتيجة لأخطاء مدمرة وقعت فيها قيادات 14 آذار تمكّن من الإمساك لاحقا بجملة السلطات المستحكمة بلبنان مضيفا إليها السلطة التشريعية بعد أن فرض قانونا انتخابيا هجينا، أوصله إلى أكثرية نيابية واضحة، وبعد أن تمكن من إيصال حزب مسيحي متحالف معه برعاية سورية، إلى رئاسة الجمهورية، سهلت للحزب كل محاولاته وجهوده، فكان أن تشكلت حكومة أمسكت أكثرية وزارئها بزمام الحكم، ولولا أن لبنان غارق حاليا في بحار المخاطر الإقتصادية التي تهدد وجوده وكيانه، ولولا أوضاع المنطقة التي لجمت المتحكمين بالوضع اللبناني عن القيام بمزيد من الخطوات المؤدية إلى الإطباق على مزيد من الأوضاع، لكنّا اليوم في وضعية أشد وطءًا وخطورة، ولكان لبنان معرّضا إلى مزيد من التطورات السلبية.
ولا بد لنا ونحن نودع ذلك الزعيم الروحي الوطني، واسع الأفق، ثاقب الرؤية الحريص على وحدة وطنية يرى في زوالها واهتزاز أسسها خرابا لهذا الوطن، إلاّ أن نقول أنه لا «يدوم إلاّ الدايم»، فها هي هذه القامة الوطنية الرائدة تطاولها سنّة الحياة، فتعود إلى ربها راضية مرضية، كذلك هي الأحوال، بكل أوجهها وأصولها وفصولها، لا تبقى على حالها بعد أن أثبتت التطورات التاريخية أنه من المتعذر على فئة في هذا البلد أن تسود على فئة، وأن السلاح لا يجلب بالنتيجة إلاّ السلاح، والتحكم والتسلط محكوم بتبدل الأوضاع والأحوال وإن الإعتماد المسلح على إراداتٍ وقيادات خارجية لا يؤدي بالنتيجة إلاّ إلى الشرّ المطلق، وفي ذلك خراب للجميع وتهديد للوطن بأسس كيانه ووجوده، ونستذكر مجددا البطريرك صفير بقوله، إن المسيحيين في لبنان لو تنبهوا لشكوى أخوانهم المسلمين لما وصلنا إلى هذه الأحوال المتدهورة، فهل من قامة وطنية تنهض في أوساط اليوم الحاكمة والمتحكمة تستعيد قولا مشابها ورؤية وطنية شاملة تكون منطلقا لنا جميعا لأن نتقيد بأصولها وقواعدها وواقعيتها.