لم يَبلَع زياد الحمصي حقيقة سقوطه في فخّ التعامل مع العدو الإسرائيلي، «بعد سنوات من النضال» ضده، وبعد عشر سنوات على توقيفه من قبل استخبارات الجيش. لم يُصدّق الرجل أنّ صورة البطل التي سعى إليها كانت سبباً في تدميره. يُقدّم نفسه على أنّه «رأفت الهجّان» اللبناني، وهو اسم الشهرة لعميل مزدوج مصري اخترق المجتمع الإسرائيلي (علماً بأن الحقيقة الكاملة لم تتضح بعد بشأن ما إذا كان الهجّان هذا فعلاً بطلاً قومياً أو خائناً لوطنه). لكن في قضية زياد الحمصي، الأمر مختلف. فقد أدانه القضاء اللبناني بجرم التعامل مع العدو، ليحكم عليه بالسجن ١٥ عاماً، قبل أن تُخفِض محكمة التمييز العسكرية مدة سجنه، مكتفية بفترة توقيفه، لكن مع تأكيد إدانته والإبقاء على تجريده من حقوقه المدنية (خُفِّف الحكم بحقه بعد فضيحة تخفيف الحكم بحق العميل المدان فايز كرم). ورغم صدور حكم الإدانة بحقّه، يخرج الحمصي في كتاب (بعنوان «لُغز الجنود الإسرائيليين الثلاثة») من ٤٥٦ صفحة ليتحدث عن مظلوميته.
قد يكون ممكناً تفهّم موقف الحمصي، لجهة سعيه إلى تلميع صورته التي حطّمها حكمان قضائيان. لكن، لا يمكن فهم ولا تبرير موقف المدير العام السابق لقوى الأمن الداخلي، وزير العدل السابق، اللواء المتقاعد أشرف ريفي، الذي قرر التبرع ليُحاضر بمظلومية الحمصي. فكتاب العميل الذي يوقّعه اليوم في البقاع، مُقدّمته مذيّلة بتوقيع ريفي. لا يستحي الأخير من إدانة نفسه، طمعاً في شعبيةٍ مصطنعة. حكى اللواء المتقاعد عن «حالة وطنية وقومية» سماها زياد الحمصي. بدت مقدمته كمرافعة تُطالب بتبرئة الحمصي وتنصيبه بطلاً قومياً. ذهب أبعد من ذلك ليُحمّل ميتاً وزراً رفض حمله في حياته. ألبس المدير العام السابق لقوى الأمن الداخلي رئيسَ فرع المعلومات الراحل اللواء وسام الحسن قميصاً متّسخاً للإيحاء بأنّ الحمصي مظلوم سجنته المحكمة العسكرية لأسبابٍ سياسية، مدّعياً بأنّها لم تأخذ برسالة بعثت بها المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي (إلى المحكمة)، تفيد بأن الحمصي أبلغ فرع المعلومات بتواصل الإسرائيليين معه بشأن رفات الجنود الصهاينة الذين قتلوا في معركة السلطان يعقوب عام 1982. وفي مقدمة كتاب الحمصي، استخدم ريفي اسم وسام الحسن لإضفاء شرعية على موقفه المستجد المناصر للعميل.
غير أن الاطلاع على مضمون الرسالة المرسلة من ريفي إلى رئيس المحكمة يوم 3 آب 2010، على خلفية ادعاء الحمصي أنّه كان يعمل تحت غطاء أمني من قبل قوى الأمن الداخلي، تُظهر أنّ المدير العام السابق يكذب، عندما يتهم المحكمة بعدم الأخذ برسالته «لأسباب سياسية معروفة». ففي رسالته تلك، روى ريفي تفاصيل تواصل الحمصي مع الضابط في فرع المعلومات الرائد (حينذاك) خالد حمود لإبلاغه «رواية تتعلق باستدراجه من قبل أحد الأشخاص الصينيين للعمل لمصلحة الموساد»، مشيراً إلى أنّ «الضابط المذكور أوصل معلومات الحمصي بصورة فورية ودقيقة وكاملة وبأمانة تامة واقتصر دوره على ذلك». يذكر ريفي أنّه بعد «تقييم المضمون ودراسته بعناية، تقرر التعامل بحذر مع هذا الشخص وإخضاع المعلومات التي أدلى بها للتحليل الأمني الدقيق كي يُبنى على الشيء مقتضاه». وذكر أنّه تمت متابعة الموضوع من قبله شخصياً للتأكد من صحة معلومات الحمصي، لكونه «وقع في تناقضات أثارت الشكوك حول ما أرسله من معلومات». وذكر ريفي أنّ الخيار كان برفض استقباله أو إعطائه أي ضمانات وإخضاعه للمراقبة الأمنية. اللافت أنّ ريفي يومها كتب في رسالته أن نتيجة مراقبته كانت أنّه «كلّما تكثفت الاستقصاءات زادت الشكوك لجهة عدم صدقية وسلامة وضع زياد الحمصي وزادت الريبة بأننا لسنا أمام حالة وطنية وإنما أمام حالة يغلب عليها طابع العمالة». وعلّق ريفي على توقيف الحمصي من قبل استخبارات الجيش في الوقت الذي كان قيد المراقبة والمتابعة من قوى الأمن، يأتي في سياق السباق على الإنجاز الذي تُقدّره المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي». هذه الرسالة الممهورة بتوقيع ريفي والموثّقة في سجلات المحكمة العسكرية وقوى الأمن ومحفوظة تحت الرقم ٢٩٣/٢٠٥ ش ٣/١، تُثبت بأنّه قرر، بعد 10 سنوات، تبرئة عميلٍ كان يجزم بتورطه.
كتب ريفي مقدّمة كتاب العميل المدان زياد الحمصي بقصد تبرئته
أما الحمصي، فله رسالة أخرى. «البطل المناضل» منذ عشرات السنين، وصاحب الصورة الشهيرة أمام دبابة إسرائيلية مدمّرة في بيادر العدس عام 1982، هو نفسه العميل الذي حكمته المحكمة العسكرية بالسجن ١٥ سنة قبل أن تُخفض محكمة التمييز مدة الحكم، بعد إدانته مجدداً. يومها توجّهت إليه رئيسة المحكمة القاضية أليس شبطيني بالقول: «أحكم عليك بالاعتماد على ما كتبتَه بيدك». فالحمصي كان قد كتب رسالة من 23 صفحة، سلّمها إلى فرع المعلومات، قبل أن توقفه استخبارات الجيش عام 2009. في تلك الرسالة، سرد تفاصيل تعامله مع الموساد الإسرائيلي. دوّر الزوايا فيها، لكن التدقيق التقني فضحه أكثر من مرة. ثبت أنّ الحمصي كان قد تسلّم من الاستخبارات الاسرائيلية جهاز اتصال استخدمه ليرسل إلى مشغليه عشرات الإحداثيات لمواقع في البقاع الأوسط، بناءً على طلبهم. لم يعد مهماً الخوض في التفاصيل. الرسالة التي كتبها الحمصي قبل توقيفه، ثم التحقيقات التي أجرتها معه مديرية استخبارات الجيش، والتحليل الأمني لحركته وسفره، والأهم، رسالة ريفي إلى المحكمة العسكرية عام 2010، كانت كلها كافية لإدانته من قبل القضاء مرتين. لكن المدير العام الأسبق لقوى الأمن الداخلي، قرر اليوم أن يتراجع عن كل ذلك، وينصّب نفسه قاضي تبرئة للعملاء. يريد ريفي اليوم أن يقبض ثمناً رخيصاً لفعلة شنيعة كهذه، بعد سنوات من الادعاء بأنه كان قائداً لعمليات مكافحة التجسس التي نفذها فرع المعلومات (وهو بريء تماماً من ذلك، بإجماع المعنيين في هذا الملف). لم يترك ريفي شيئاً في مسيرته بلا تشويه: من نسف كل القوانين وتسخير قوى الأمن الداخلي في السياسة، إلى قيادة قادة المحاور، إلى تغطية اختطاف رئيس الحكومة سعد الحريري في السعودية… بقيت صورة وسام الحسن التي لطالما زعم الحرص عليها، فإذا به يضعها في خدمة عميل مدان.