ما إن استُعيد مناخ البحث عن حل للأزمة السورية حتى أعادت واشنطن «تلزيم» الورشة لموسكو. هذا ما حصل في فترات سابقة، وكانت الأعذار كثيرة، منها: أن الولايات المتحدة لا مصالح لها في سورية، لذلك لا نفوذ لها على النظام، أو أن الأولوية للشأن النووي، وأميركا لا تريد إتاحة أي مجال أمام ايران لإقحام ملفات اخرى في المفاوضات، أو أن واشنطن لم تجد فريقاً معارضاً واحداً مقنِعاً يمكنها الاعتماد عليه لتأهيله كبديل من النظام… لكنها أعذارٌ واهية دُفع بها للتغطية على عدم وجود سياسة اميركية حيال هذه الأزمة. نعم كانت ولا تزال هناك مواقف اميركية لكن المعلن منها لا يعني بالضرورة حقيقتها، والأسوأ في نهج واشنطن أنها عندما لا تكون لديها سياسة ولا ارادة فإنها تنكبّ على محاربة وتعطيل أي سياسة أو ارادة لدى الحلفاء والأصدقاء. أي أنها لا تعمل ولا تسمح لأحد بأن يعمل. وما على الشعوب المنكوبة، بالأحرى الشعب السوري في هذه الحال، سوى أن ينتظر… الرئيس الاميركي التالي.
ما الذي يعنيه تكرار واشنطن القول إن النظام السوري «فقد شرعيته» وأن رئيسه «متهمٌ بجرائم حرب وجرائم ضد الانسانية» وأن «لا دور لبشار الاسد في مستقبل سورية»؟ هل هذه مجرد آراء، مبادئ أخلاقية، عناوين سياسة، أم شعارات تُرفع بحسب الظروف؟ لو كانت لدولة عادية غير فاعلة ولا مؤثرة لما أثارت أي جدل، أما وأن الأمر يتعلّق بالدولة العظمى فإن المعنيين به سيبحثون حتماً عن ترجمته في مسار الأحداث. لكن إيلاء المهمة لموسكو وطهران يعني تركها لطرفين يواصلان الاعتماد على بشار الأسد، ولا يزالان يرعيان جرائم ومجازر كالتي ارتكبها أخيراً في دوما، فضلاً عن كونهما يفصّلان «الحل» المرتقب على مقاس مصالحهما، وكأن سيرغي لافروف ومحمد جواد ظريف مُنحا الدور الذي لعبه قبل مئة عام الفرنسي فرنسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايك بين تشرين الثاني (نوفمبر) 1915 وأيار (مايو) 1916 عندما تقاسم بلداهما إرث الدول العثمانية المتهاوية في المشرق العربي. واذا لم تكن لدى روسيا نيات تقسيمية معروفة أو أجندة مذهبية فإن ما يتبدّى أكثر فأكثر من أطماع إيران أنها لا تثق بإمكان الحفاظ على «مصالحها» إلا في سورية مقسّمة، وتريد تمرير هذا التقسيم في إطار الحرب على «داعش».
اذا كان صحيحاً القول إن «لا مصالح لأميركا في سورية» فإن أحداً لا يصدّقه، خصوصاً أنها تستغلّ إطالة الأزمة لنسج شبكة مصالح، وبديهي أنها تخلّت عن «الأعمال القذرة» لروسيا وإيران لكنها تراقبهما ولن يحسما شيئاً يمكن أن يُطاح بـ «فيتو» منها. ثم أن اميركا معنيّة بـ «مصالح اسرائيل» التي تريد أن تكون لها كلمة و»منطقة نفوذ» في صيغة سورية ما بعد الأزمة. وطالما أن «لا مصالح لاميركا» فمن أين هذا اليقين الثابت لدى رأس النظام بأن اميركا لا تريد سقوطه لو لم تمنحه الدليل تلو الآخر على أن حدسه ليس خاطئاً، ومن ذلك أن سيناريو الإيهام بالتأهب لمعاقبته على جرائم السلاح الكيماوي ثم المناورة مع روسيا للتغطية على هذه الجرائم لا يزالان حاضرين في الاذهان. كما أن السكوت عن دور ايران و»حزب الله» كان ولا يزال مدوّياً على رغم مفاعيله السيئة في لبنان، وكذلك في العراق واليمن وصولاً الى البحرين فالكويت. ولو لم يكن بقاء النظام (ورئيسه) «مصلحة» لأميركا لما تدخلت أكثر من مرّة لفرملة هجمات المعارضة، مجازفة بل غير آبهة بأن سياستها هذه زرعت الاحباطات التي ساهمت بفاعلية في اجتذاب تنظيمي «القاعدة» و«داعش».
وقد يكون صحيحاً أن منهج التفاوض فرض عزل البرنامج النووي الايراني عن الأزمات الإقليمية، لكن هذا لم يمنع طهران من استغلال المفاوضات بأبشع الممارسات وكان أكثرها خطراً استدراج «داعش» الى سورية لاستخدامه في مدّ عمر نظام الأسد، وفي تمرير كل التدخلات التي سمحت لبعض مهووسي طهران بالقول أن ثمة «امبراطورية فارسية» ولدت وعاصمتها بغداد. والآن، بعد التوصّل الى الاتفاق النووي، وما يفترضه من انفراجات إقليمية، اذا بالدفاع عن الاتفاق وتسويقه يصبحان الأولوية الجديدة، وإذا بالحل في سورية يراوح بين مساهمات روسية تجريبية كان «منتدى موسكو 1 و2» نموذجاً تعيساً لها وبين «مبادرة» ايرانية لا تشبه إلا المفاوضات التي تجريها لـ «هدنات» مذلّة هنا وهناك أو الحروب التي خططتها لإخراج أبناء حمص والزبداني من بيوتهم، أي للمساهمة في التغيير الديموغرافي الذي أراده النظام منذ أوائل الأزمة، وفقاً للنموذج الاسرائيلي في فلسطين.
ومن المؤكد أن المعارضة السورية لم تتمكّن من بلورة فصيل قيادي ليكون بديلاً أو «جزءاً من بديل»، رغم أنها حاولت. لكن أجندات «القوى الداعمة»، وتضارب المواصفات والمعايير في دواخلها، كانت في معظم الأحيان أكثر تشويشاً وتضليلاً للمعارضة من ممارسات النظام، ولا تزال تجربة صعود «الجيش الحرّ» وأفوله شاهداً على مناحرات «الداعمين» ومماحكاتهم. غير أن البحث الاميركي، البليد والعقيم، عن الفصيل المعارض الأمثل لم يؤدِّ فقط الى اغتيال بطيء لآمال السوريين وطموحاتهم بل أجلس الاميركيين لمراقبة المنافذ المشرّعة لدخول كل أنواع التطرّف واستشرائها تحت أنظارهم. ولعل عثور الاميركيين في النهاية، بعد خراب سورية والمنطقة، على ستين رجلاً لتدريبهم وليكونوا «المعارضة المعتدلة» المنشودة، كان الأبلغ تعبيراً عن سياسة بائسة.
في أي حال، أصبح مؤكداً أن أساس «الحل» سيعتمد على «تفاهمات» لافروف – ظريف، لكن مقاربتهما لا تزال في بدايتها، ويصعب الوثوق بانفرادهما مع الخريطة السورية، خصوصاً أن تصريحاتهما الأخيرة لم تتضمن أي اشارة الى «سورية موحّدة»، وإذ لم تتعامل حكومتاهما مع الأزمة إلا بمنظار مصالحهما فليس مؤكداً أنهما تأهلتا الآن للبحث عن حل يأخذ حقائق البلد والشعب في الاعتبار. المؤكد أيضاً أن روسيا وايران تستغلان هذه الورشة، ومعهما أميركا في شكل غير مباشر، للشروع في بناء قاعدة للحل تأخذ بمنهج المساومات على تقاسم النفوذ. والمؤكد كذلك أن ايران لن تضيّع الوقت بل ستبدأ المساومة على حدود «الدويلة الأسدية» كي تكيّف خططها العسكرية المقبلة للحفاظ عليها. هذا هو جوهر «المساهمة الإيرانية» في حل الأزمة السورية، كما يروّج لها منذ الاتفاق النووي، وليس النقاط الأربع (وقف النار، حكومة، دستور انتخابات، وإعادة إعمار) التي أفصحت عنها طهران لـ «مبادرتها».
لعل هذا تصوّر أولي لمنهجية البحث عن حل في سورية، وسط ما يقال عن «مرونة» طارئة على الموقف الروسي، وربما الايراني أيضاً. فالجميع يقصد موسكو حالياً لأن لديها تكليفاً اميركياً. ومن المبكر الحديث عن «صفقة» أو أكثر، لأن هذه تستلزم وقتاً لتذويب التعقيدات وإخراجاً تتولاه الدولتان الكبريان في حال توافقهما، ولم تخفِ أميركا رغبتها القوية في تلبية مطامع ايران في سورية لتستطيع مقايضتها في مناطق ومجالات اخرى. ويصح التساؤل لماذا السعي الى مؤتمر في موسكو يبدو بديلاً من صيغة جنيف نصاً وروحاً، وإلا فلماذا الحديث عن حكومة ودستور وانتخابات كبديل من «هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة»، فهل المقصود إغراق أطراف المعارضة وأشباه المعارضة في التفاصيل لتمرير بقاء النظام ورئيسه وفقاً لاقتراحات ستيفان دي ميستورا… لكن، اذا كانت الدول المعنية تنطلق من مبدأ أن «سورية الموحدة» لم تعد ممكنة ولا واقعية، فهل تكون الورشة الحالية (الحرب على «داعش» واستكشاف عناصر الحل السياسي) مجرد تغطية للقوى الدولية في انهماكها بصفقة إعادة رسم الخريطة السورية.