يجزم العارفون بالتفاصيل التي تشهدها اللقاءات السرّية المخصّصة للبحث في قانون جديد للانتخاب أنّ الاتصالات الأخيرة رسَت على قانون مختلط بالمناصفة بين الأكثري والنسبي، وأنّ العقدة المتبقّية محصورة في الخلاف على تصنيف المقاعد مذهبياً بين النظامين والتي يمكن أن تُطيّر كلَّ المساعي المبذولة، فتضمّ الصيغة الجديدة إلى لائحة المشاريع المطوية. فما هي الظروف التي قادت إلى هذه الصيغة؟
منذ أن كشفَ قبول الرئيس سعد الحريري بنوع من القوانين المختلطة التي تعتمد في جزء منها على النسبية، بات من المنطق الربط الذي تحقّقَ بين هذه الخطوة وسلسلة الملاحظات التي أودعَها رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط لدى رئيس مجلس النواب نبيه بري والتي تعهّد فيها قبوله نوعاً من النسبية المشروطة بتقسيمات إدارية محدّدة للدوائر وبتوزيع دقيق للمقاعد بين النظامين الأكثري والنسبي.
قيل يومها إنّ جنبلاط بخطوته هذه، قرّبَ المسافات التي كانت مطلوبة من كلّ الأطراف من أجل الالتقاء وسط الطريق حول نقاط مشتركة يمكن أن تشكّل معبراً إلى القانون العتيد الذي طالَ انتظاره، في وقتٍ باتت كلّ المهَل الدستورية في خطر، خصوصاً أنّ البلد بات على شفير أن يشهد نوعاً آخر من الشغور النيابي لم يشهده قبلاً في المؤسسة الأمّ التي تشكّل مصدراً لكلّ السلطات، فهي التي تنتخب رئيس الجمهورية وتمحَض الحكومة ثقتَها لتمارس صلاحياتها قانوناً. ومرَدّ هذا التفسير أنّ مواقف جنبلاط استُخدمت ما فيه الكفاية من أكثر من فريق رداءً تلطّوا خلفَه تارةً بالحِرص على احترام هواجسه والإصرار على الأخذ بها والسعي إلى تبديدها، وطوراً عندما كان يعبّر عن رفضه لبعض المقترحات نيابةً عن أطراف عدة دفعةً واحدة.
لم يكن خافياً على أحد حجمُ المصاعب التي تَحول دون الوصول الى قانون جديد للانتخاب، فالمساعي التي بذِلت منذ العام 2008 إلى اليوم من أجل توليد هذا القانون اصطدمت بكثير من العقبات القاتلة التي حالت دون التفاهم على صيغة ترضي الأكثرية النيابية. فالتوازنات التي حَكمت البلد منذ انتخابات العام 2005 حالت بسلبياتها دون الوصول إلى أيّ مشروع في ظلّ الخلاف الحاد بين قوّتين تتمتّعان بالقوة ذاتها تقريباً.
ويَلفت العارفون إلى ما أنتجَه الانقسام الحاد بين اللبنانيين من توازن سلبي «كربَج» البلد وقاد إلى شغور رئاسي اقترَب من أن يكون قاتلاً ويُهدّد وحدةَ البلد والمؤسسات الدستورية وشلّ مظاهر الدولة بمقوّماتها الإدارية والسياسية وحتى الديبلوماسية التي كادت تُنهي ما بنيَ من علاقات لبنان بالعالم الخارجي والخليجي تحديداً.
فباتت المبادرة رهناً بصمود المؤسسات العسكرية والأمنية التي حفظت نوعاً من التوازن الداخلي إلى المرحلة التي تمّ فيها تفكيك موازين القوى التي حشِرت بين قالبي «8 و14 آذار»، ففتَحت الأفق على معادلات جديدة أنتجَت استحقاقاً رئاسياً برعاية إقليمية ودولية على الشكل الذي شهده وما لبث أن تحوّلَ استحقاقاً حكومياً عبَر بسهولة لم تكن متوقَّعة.
كان من المؤمل أن تُنتج المعادلة الجديدة الناجمة عن تفكّك المعسكرين قانوناً جديداً للانتخاب طالَ انتظارُه طوال سنوات تسعة مضَت. لكن العكس حصل وتبيّنَ أنّ جملة التفاهمات التي قادت إلى انتخاب عون رئيساً للجمهورية وتشكيل حكومة «استعادة الثقة» لم ترقَ إلى مرحلة التفاهم على قانون للانتخاب، فعاد الانقسام الحاد إلى ما كان عليه قبلاً، واختلّت التوافقات الجديدة بعدما تعذّرَ التفاهم على صيغة واحدة بين حليفَين، على الأقلّ الحلفاء الجُدد والقدامى.
وما زاد الطين بلّة أنّ هناك من اعتقَد أنه قادر على تكرار تجربة الوصاية السابقة، فراح يقدّم صيغة تلوَ أخرى تمّ «تفصيلها» على قياس مجموعات حليفة اختصِرت بـ«الأقوياء الأربعة» التي عجزت عن التوصّل الى قانون جديد.
وتبيّنَ عندها أنّ التفاهم على قانون يُرضي أكثرية اللبنانيين بقيَ سراباً بعيد المنال في ظلّ «الفيتو الميثاقي» الذي وضَعه جنبلاط أوّلاً، والحريري ثانياً، وفي كلّ الحالات بقيَ الثنائي الشيعي ممسِكاً بعصا الرفضِ والتأييد، يطيح بالمشاريع المطروحة واحداً بعد آخر في ضوء حسابات محلية وإقليمية بعيدة المدى تقول بانتظار حسمِ الخيارات الكبرى بين المحاور المختلفة في سوريا والمنطقة تمهيداً لترجمتها في لبنان.
في ضوء هذه الوقائع، لم تنفع المواقف الحادة لرئيس الجمهورية في حضِّ الأفرقاء على إنتاج القانون الجديد، فرفض أولاً مرسوم دعوة الهيئات الناخبة، واعتقَد البعض أنه سيَرضخ للمهل التي تمّ التمهيد لتحديدها في 21 شباط المنصرم أوّلاً قياساً في اعتبار أنّ حزيران هو شهر رمضان المبارك، وثانيها في 21 آذار الجاري ربطاً بمهلة التسعين يوماً الفاصلة عن نهاية ولاية المجلس في حزيران، قبل أن يعطي برّي مهلة جديدة إلى 21 نيسان ربطاً بالمهلة الفاصلة عن نهاية الولاية بستّين يوماً.
وما بين هذه المهل تحدّث العارفون بتفاصيل ما يَجري في اللقاءات الأخيرة التي عقِدت في وزارة المال والسراي الحكومي عن أنّ تفاهماً قد تحقّقَ على قانون مختلط بالمناصفة (64 مقعداً على أساس النسبي و64 على أساس الأكثري)، لكنّ «العقدة البحرية» الصعبة التي يمكن أن تُطيّر ما أنجِز تقف عند حدود توزيع المقاعد مذهبياً في كلّ دائرة بين النظامين الأكثري والنسبي ضماناً للتوازنات التي يسعى وارءَها واضعو القانون.
وكلّ ذلك يجري وفقَ معادلة رسَمها مرجع أمني وسياسي ساخراً، فقال: «لن يمرّ قانون ما لم يضمن أسماءَ النواب الفائزين من اليوم، ولو كان قانوناً هجيناً يخالف كلّ أصول العدالة والمساواة بين المرشّحين، ولن يستطيع صانعوه الدفاع عنه، لكنّه أمر واقع سيُفرَض في ربع الساعة الأخير. فلا تمديد تقنياً أو غير تقني قبل ولادة القانون. وإلّا فالفراغ».