قبل ثورة “17 تشرين”، كانت التوقيفات تحصل على الطريقة البوليسية. أمّا التحقيقات فتسير وفق “ثقافة” الاحتلال السوري القانونية. انتهاكات بالجملة نفذتها السلطة في وجه الثوار، فكان لا بد من تعديل المادة 47 لضمان حق الدفاع المقدّس، ولتحرير التحقيقات الاولية من التعسف والاستنسابية والترهيب والترغيب، ومنع الاستدعاءات العشوائية للاستهداف السياسي تحت ستار قضائي قانوني. إذاً، أيها الثوار، ثوروا بحرية وارفضوا أي انتهاك لحقوقكم!
رصدت لجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين (منذ 17 تشرين الاول 2019 حتّى 1 آذار 2020)، توقيف 944 من المشاركين في “ثورة 17 تشرين”، بينهم 53 قاصراً و17 امرأة. كذلك، سُجّل تعرض 207 موقوفين للعنف، و661 اصابة من الذين شاركوا في الثورة وتعرضوا للعنف في ساحات التظاهر وأماكن الاحتجاز، بينهم 16 قاصراً و61 امرأة، ناهيك عن 553 اصابة (تم احتجاز 35% منهم) بينهم 13 قاصراً و50 امرأة، وتم الاعتداء عليهم من قبل الجيش ومخابرات الجيش بنسة 18,70%، ومن قبل الامن الداخلي ومكافحة الشغب بنسبة 64 في المئة، شرطة مجلس النواب بنسبة 7,80%، و 8,50% من قبل مدنيين. وسائل الاعتداء كانت متنوعة أبرزها: العصي، الرصاص المطاطي، الغاز المسيل للدموع، أكعاب البنادق، الحدائد والارجل والايدي، فنتج عن ذلك أنواع مختلفة من الإصابات وثقتها تقارير الاطباء الشرعيين، وأدت بعض هذه الإصابات الى ضرر دائم كما استوجبت إجراء عمليات جراحية، كما تم توثيق حصول اصابات متعمّدة في الرأس والوجه.
إعرفوا حقوقكم
تشير الأرقام الواردة في هذه الاحصاءات بشكل واضح الى ضرورة وقف هذه الانتهاكات، فأتى اقرار مجلس النواب لاقتراح القانون الرامي الى تعديل احكام المادة 47 من قانون اصول المحاكمات الجزائية، لجهة تكريس حق الموقوف بالاستعانة بمحام اثناء التحقيقات الاولية، ليكون حصناً منيعاً بوجه السلطة المستشرسة على شعبها. وكان تعديل المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، الذي كان قد تقدّم به نائبا تكتّل “الجمهورية القوية” زياد الحواط وجورج عقيص والذي أقرّ في الجلسة التشريعية الاربعاء الماضي، انجازاً تشريعياً تاريخياً، ومنح هذا الاقتراح عدداً من الحقوق للمشتبه به أبرزها: الحق في حضور محامٍ عنه أثناء التحقيق الأولي لدى الضابطة العدلية، الحق في تعيين محامٍ مجاناً اذا كان متعسراً مادياً، الحق في الحصول على معاينة طبية مجانية، نفسية وجسدية، وحقه في الترجمة، الحق في معرفة الشبهات القائمة ضده والأدلة، الحق في تسجيل اجراءات التحقيق معه بالصوت والصورة.
ويرى النائب زياد الحواط أنّ “قوانيننا قديمة وبحاجة الى التطوير والتحديث”، من هنا اقترح تعديل هذا القانون، حيث أعطت لجنة الادارة والعدل برئاسة النائب جورج عدوان الاهمية القصوى لهذا القانون وعملت على ادخال تعديلات تطويرية عليه، بالتعاون مع قضاة أكفاء وبالتعاون مع نقابتي المحامين في بيروت وطرابلس. وقال “في الكثير من الاوقات، يتم تضليل سير المحاكمة بالتهويل على الموقوف وتعذيبه ما يدفعه الى الاقرار بأمور لم يتركبها، بالاضافة الى الاستدعاءات والتوقيفات السياسية. من هذا المنطلق، كان من الضروري اقتراح هذا القانون، بعد أن تبين لنا أن الفكر والنهج والاداء والممارسة لم تتغير منذ زمن الاحتلال السوري، مروراً بحقبة النظام الامني اللبناني السوري وصولاً الى اليوم. فمن غير المسموح استدعاء أي كان الى اي ضابطة عدلية، من دون معرفة سبب الاستدعاء، أو أن يتم حجزه برسم التحقيق”. وأكد الحواط أنّه “من واجب الشعب متابعة تطبيق هذا القانون ورفض الحضور الى أي ضابطة عدلية من دون تعيين محامٍ. كذلك، أبلغني نقيب المحامين ملحم خلف عن استعداد النقابة لتوكيل محامٍ مجاناً لكل من لا تسمح له امكاناته المادية بتحمل كلفة المحامي، على أن تعلن النقابة قريباً خطاً ساخناً للتواصل معها”.
تطوير البيئة الجزائية
رفع قانون تعديل المادّة 47، أمام الهيئة العامة لمجلس النواب بعد ان وقّعه النواب علي بزي وجورج عقيص وزياد حواط، وحول الى لجنة الادارة والعدل التي ادخلت اليها عدداً من التعديلات التطويرية، حيث شارك في اجتماعاتها ممثلون عن نقابة المحامين والقاضيان نازك الخطيب وزياد مكنّا، وكان لهما فضل كبير في اجراء الدراسات والتحليلات والابحاث والمقارنات المعيارية مع الدول الديموقراطية، حتّى تم التوصل الى النظام الافضل الذي يرعى عملية التوقيف ويحدد ضمانات الموقوفين اعتباراً من لحظة توقيفهم، الى حين استلام الملف من قبل قاضي التحقيق واصدار المذكرات اللازمة. يقول النائب جورج عقيص إنّ “في لبنان، ما زلنا نعتبر ان الاعتراف يشكل سيد الأدلة، وفي ظل تطوّر التكنولوجيا وكاميرات المراقبة وداتا الاتصالات والعلم الجنائي والطب الشرعي، تراجع الاعتراف الى ادنى مراتب الادلة، وأصبح التعويل يرتكز على الادلة العلمية الثابتة. وسمح لنا تعديل المادة 47 بتطوير البيئة الجزائية في لبنان، بشكل يمنع انتزاع الاعتراف بالقوة كما كانت تجرى العادة، ولا سيما في حضور محامٍ واصحاب العلاقة وطبيب شرعي وغيره”. يمكن القول إنّ معركة تعديل القانون تكللت بالنجاح، ولكن ماذا عن تطبيقها في لبنان؟ يجيب عقيص: “الامر متروك لعناية القضاة انفسهم، الذين يجب ان يحرصوا على تطبيق هذه المادة ومراقبة اعمال الضابطة العدلية ومدى الالتزام بالتعديلات، وعلى حرص نقابة المحامين من ناحية تطبيق النص ورفع الصوت عالياً عند تسجيل اي تجاوز للضمانات التي اقرت، وفي طبيعة الحال يجب على السلطة السياسية ووزير العدل ووزير الداخلية وقادة الاجهزة الامنية، رفض السكوت عن اي تحقيقات مخالفة للمادة 47 بعد تعديلها”.
التلاعب بالقانون… وارد
يعرف القانون بتعديل المادة 47، ولكن واقعياً لم يقتصر التعديل على هذه المادة بل شمل المادتين 32 و41. فكيف سيطبق التعديل عملياً، وهل يمكن التحايل على التنفيذ؟ يرى المحامي أيمن رعد من لجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين في لبنان، أنّه “بعد نضال طويل للجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين لتطبيق هذه الحقوق منذ العام 2015، وبفضل جهود ومتابعة نقيب المحامين في بيروت ملحم خلف ونقابة المحامين التي بدأت تستعيد دورها الوطني، يسرّنا ان نعلن أن ايام منع المحامين من لقاء موكّليهم ومواكبتهم خلال التحقيقات قد باتت، وبحكم القانون، وراءنا! وبعد أن كان في امكاننا مواكبة الموقوف قبل الاستجواب فقط، سمح تعديل المادة 47 بالزامية مرافقة المحامي للموقوف قبل وخلال الاستجواب. أمّا أهم ما جاء في هذا التعديل فهو تسجيل جلسات الاستجواب صوتاً وصورة، وهذا يحمي حقوق الموقوفين والمستدعين الى التحقيق ويبعدهم عن نهج السلطة باستعمال القوة والترهيب والتعذيب. كذلك، النقطة الاساسية في تعديل القانون، فهي عدم امكانية ابطال التحقيقات الاولية، ما يسرع وتيرة المحاكمات”.
التلاعب في تطبيق هذه المادة، أمر غير مستبعد، ويكشف رعد أنّ “هناك فرقاً بين الأجهزة الامنية التي تعتبر ضابطة عدلية والتي باتت تطبق حالياً المادة 47 بعد ضغوطات الشارع ونقابة المحامين، وبين الاجهزة الامنية التي لا تعتبر نفسها ضابطة عدلية تخضع الى اشارة القضاء والى قانون اصول المحاكمات الجزائية، وبالتالي لا يطبقون اصلاً المادة 47، مثل مخابرات الجيش، أمن الدولة والأمن العام. مع الاشارة، الى أنّ من لا يعتبر نفسه ضمن الضابطة العدلية لا يحق له القيام بالتحقيقات. وهذه المعضلة، تحولت الى نقاش يومي من قبل نقابة المحامين وقيادة الجيش لتطبيق المادة 47 أو لمنع من هم خارج الضابطة العدلية بالقيام بالتحقيق، وما زالت أجواء هذه المشاورات سرية حتّى الساعة. على الاثر، يمكن التلاعب على المادة 47 من خلال تحويل التحقيقات الى من يعتبر نفسه جهازاً أمنياً. كذلك، تنص المادة المعدلة الى الزامية تزويد كل غرف التحقيق بالكاميرات لتوثيق التحقيق والاستجواب، وهنا يمكن عدم تطبيق هذه النقطة بحجة عدم وجود ميزانية لهذا الموضوع. من هنا تبقى معركة تطبيق المادة من اولوياتنا، من خلال ضغط المحامين على ابواب الثكنات، ضغط الشعب في الشارع، والجهود والضغوط التي تقوم بها نقابة المحامين الممثلة بالنقيب الخلف”.
ملاحقة مخالفات الضابطة العدلية
تعديل هذه المادة، هو انتصار كبير للعدالة. ورغم ذلك، يوجد من يعتبر في السلطة أنّ هذه الخطوة ليست سوى بروباغندا وموقف شعبوي. في هذا الاطار، يعتبر الحواط أنّ “تعميم الفساد على الجميع، هو تدمير شامل للسلطات”، مضيفاً: “نحن نشرع القوانين وعلى السلطة التنفيذية تنفيذها، وإنّ اقرار تعديل المادة 47، كان نتيجة متابعة جدية من قبلي شخصياً ومن قبل تكتل “الجمهورية القوية”، من مبدأ ضرورة ان يلعب النائب دوره في تشريع القوانين وتحديثها، لبث نفس جديد فيها يحاكي جيل الشباب، وعلى الاجهزة الامنية تنفيذ القانون، والا سنكون لها بالمرصاد. أمّا عقيص فأكد “التضامن الجدّي مع مطالب الثوار”، وقال: “نحن لا ننتظر إذناً أو شهادة من احد، وقدمنا تعديلاً يسمح بتعزيز مناخ الحريات العامة وحقوق الانسان، وسرنا بالاقتراح بعيداً من الشعبوية من لحظة تقديمه الى لحظة اقراره. ووجهنا رسالة مهمة مفادها أنّ بقاءنا في هذا المجلس ان كان يفيد بشيء، فهو بتقديم اقتراحات كهذه والسعي الدؤوب لاقرارها مع المعنيين، وأكثر من سيستفيد من هذا النص هم الثوار وقادة الرأي الذين يشتكون مراراً من التعرض الى الاستدعاءات خارج النطاق القانوني وللمضايقات والترهيب داخل مراكز القوى الامنية. وكل مخالفة للقانون ستعرض صاحبها للملاحقة اذ يكون ارتكب مخالفة تشكل بدورها جرماً جزائياً”.