أمعنت «الدولة البوليسيّة»، في الأيام الماضية، بممارساتها القمعيّة تجاه المعتصمين. الشرطة العسكريّة تعتقل، مخابرات الجيش تلاحق، والجيش يستعمل القوّة حسب الموقف والمكان. أما نقابة المحامين المطالبة بأن تكون خط الدفاع الأوّل عن حقوق المتظاهرين، وقبل انتخاباتها يوم غد، فقد قرّرت التراجع إلى الصفوف الخلفيّة ساحبةً توكيلها لمحامي المتظاهرين في صور، ما دفع عدداً من المحامين إلى تنظيم وقفة بزيّهم المهني، أمام قصر عدل بيروت وداخله، تضامناً مع الانتفاضة وتنديداً بتوقيف المتظاهرين وتقصير نقابتهم
وقد كرّرت الأجهزة الأمنيّة في اليومين الماضيين الارتكابات نفسها بحقّ من تعتقلهم من المتظاهرين بدون مسوّغ قانوني، عبر سحب الناشطين واعتقالهم تباعاً لإرهاقهم وجرجرة أهلهم ورفاقهم من مركز إلى آخر بحثاً عنهم. ارتكابات الأجهزة تتكرّر مع كل معتصم «تضعه في بالها بحسب درجة نشاطه»، ليبدأ المسلسل باعتقال تعسّفي وضرب وسحل واعتداء، من ثمّ إخفاء قسري في مركز مجهول من غير الإقرار للأهل أو المحامين بأن الموقوف لديها. هكذا فعلت الشرطة العسكريّة ليل الخميس- الجمعة مع كلّ من سامر مازح وعلي بصل، وقبلهما مع خلدون جابر، وكذلك مع عدد من المعتقلين في الذوق وجل الديب. إذ أنكرت وجود مازح وبصل لديها في ثكنة فخر الدين، ونفت لأهلهما ولجنة المحامين المتطوّعين للدفاع عن المتظاهرين وجودهما لديها. هكذا بكل بساطة، باتت الأجهزة تلعب مع الأهل والمحامين «الغميّضة». يدور أولئك من مركز إلى آخر، والمراكز كلّها تنفي فيما المعتقلون يتعرّضون للتعذيب ويخضعون للتحقيق لا على خلفيّة تعرّضهم لعسكري مثلاً، بل تتمحور أسئلة المحقّقين حول «المحرّض والمموّل للانتفاضة».
تركت الأجهزة والدة سامر وشقيقته تبحثان عنه منذ منتصف ليل الخميس حتى ظهر الجمعة، حين تمكّن المحامون «بالمونة» على مدّع عام من معرفة تفصيل صغير عنه وعن رفيقه علي يؤكّد بأنهما في ثكنة فخر الدين. المطاردة حصلت عند جسر الرينغ منتصف ليل الخميس، حيث تعرّض سامر لمضايقات ولاحقه مدنيّون يستقلّون دراجات ناريّة حتى منطقة الجمّيزة حيث اعترضوا طريقه ورفيقه علي واعتقلوهما من دون أن يعرّفوا عن أنفسهم. سلّم الشابان إلى سيارة «رابيد» تابعة للشرطة العسكريّة ليختفي أثرهما. من هم «المدنيّون»، أشباح أو مخبرون أو مخابرات جيش، لا أحد يعرف. مهمّتهم مراقبة الناشطين ومطاردتهم في ساحات الاعتصام حتى أبعد نقطة عن الكاميرات وعيون الأصدقاء، لاصطيادهم وضربهم ثمّ اقتيادهم إلى أحد الأجهزة الأمنيّة.
وظهر أمس، نظّمت وقفة تضامنيّة أمام قصر عدل بيروت (وسجّلت دعوات إلى وقفات أمام مختلف قصور العدل) للكشف عن مصير جميع المعتقلين ومن بينهم سامر وعلي. في هذا الوقت كانت لجنة المحامين تقدّم إخباراً إلى مدّعي عام التمييز القاضي غسان عويدات بشأن إخفاء الشابين، وخرجت لتبلغ المتظاهرين أنه سيتمّ الإفراج عنهما من مخفر الجمّيزة.
في الوقت نفسه، كان عدد من المحامين بـ«الروب الأسود» ينظّمون داخل قصر العدل وخارجه وقفة تضامنيّة مع الانتفاضة، واعتراضاً على طريقة التعامل مع المعتقلين. «نتيجة الانقسام السياسي والمحاصصة، اتخذت النقابة موقفاً معاكساً للدّور المنوطة به عبر رجوعها عن تكليف المحامين عن المعتقلين في صور»، هو السبب الأوّل للوقفة وفق المحامي واصف الحركة، علماً «أن زملاء لنا التفوا على قرار النقابة وحصلوا على تكاليف شخصيّة من المتّهمين في قضيّة الريست هاوس في صور». والسبب الثاني هو «دعم وتأييد الشارع، والاعتراض على العنف المفرط المستخدم ضدّ المعتصمين، وطريقة توقيف المعتقلين بما يخالف المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائيّة»، أما في البعد السياسي قبيل انتخابات النقابة (يوم غد) فالوقفة «تسجيل موقف مباشر لاختيار محامين من خارج قوى السلطة والطوائف». اعتراض المحامين الأبرز هو على «الإخفاء القسري للموقوفين ليوم أو يومين، من دون تجاوب الأجهزة معهم».
من أمام قصر العدل توجّه المعتصمون إلى فصيلة الجمّيزة، حيث وعدوا باستلام مازح وبصل. هناك، قامت الشرطة العسكرية التي نفت وجود المعتقلَين لديها، باقتيادهما إلى داخل الفصيلة وتسليمهما. مهمة الشرطة العسكرية لم تنتهِ بالتسليم بل ضيّقت على المصوّرين والمتظاهرين. نحو ساعتين أو ثلاث، انتظر المعتصمون تحت المطر مطلقين الهتافات دعماً لرفيقيهما، وقد تسنّى لوالدة مازح فقط مقابلته لربع ساعة، خرجت بعدها لتبلغ المتظاهرين بأن الضابط طالبها بتوقّف المعتصمين عن الهتاف حتى يتسنّى له إتمام تقريره والإفراج عن الشابّين! مماطلة الدرك انتهت قرابة الرابعة بعد الظهر، ليخرج الشابان، ويخبران عن التعذيب وأسئلة المحقّقين التي كانت تريد جواباً واحداً: «قل أنا حمار!».
المعاملة القمعيّة الموثّقة مع معتقلي الرينغ، قابلتها عيّنات بلا توثيق كامل. لجنة المحامين تابعت أيضاً موقوفي الذوق الذين اعتقلت معظمهم مخابرات الجيش وأودعتهم ثكنة صربا (اللواء 11 في الجيش)، ومعتقلي جل الديب، ومعتقلاً في الشوف. وقد أصدرت قيادة الجيش- مديرية التوجيه، بياناً اعترفت فيه بـ«توقيف معتدين بلغ عددهم 20 شخصاً أحيلوا على التحقيق (…) أثناء قيام الجيش بتنفيذ مهام فتح الطرقات، عمد بعض المحتجين إلى التعرّض للعسكريّين بتوجيه عبارات استفزازيّة ومحاولة الاعتداء عليهم، ما أدّى إلى إصابة عدد منهم برضوض وجروح مختلفة». البيان أوضح «أنّه تمّ إخلاء سبيل 9 منهم، وأبقي على 7 رهن التحقيق بناءً لإشارة القضاء المختص، وأحيل 4 منهم بينهم سوري على الشرطة العسكرية، بعدما ثَبت تورّطهم بمخالفات أخرى». محاولات الاعتداء على عناصره، كما ذكر بيان الجيش، لم تشمل الاعتداء على الشاب فادي نادر في جل الديب، الذي قام عناصر الجيش بضربه وسحله مما أفقده وعيه فتركوه لينقله رفاقه إلى مستشفى أبو جودة (الزلقا). آثار التنكيل الذي تعرّض له نادر كانت واضحة على جسده، «رضوض في كامل أنحاء الجسم، شعر في ضلعين» كما ذكر لدى خروجه من المستشفى، إضافة إلى إعلانه عن نيّته التقدّم بدعوى قضائيّة ضدّ المعتدين عليه.
إخبار حول «الإخفاء القسري»
قدّمت لجنة المحامين المتطوّعين للدفاع عن المتظاهرين أمس، إخباراً إلى مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات بشأن «الإخفاء القسري للمتظاهرين مازح وبصل وحجز حرّيتهم دون أي مسوّغ قانوني ومخالفة المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائيّة وقرائن على ارتكاب تعذيب بحقّهما»، مطالبة إياه بـ«فتح تحقيق فوري لمعرفة مكانهما، وتكليف طبيب شرعي للكشف عليهما فوراً، والادعاء على المرتكبين بجرم المادة 37 من القانون 105/ 2018 (قانون المفقودين والمخفيّين قسراً) وبجرم المادة 367 من قانون العقوبات (تعاقب بالأشغال الشاقة كل موظف يوقف شخصاً في غير الحالات المنصوص عنها قانوناً)، وبمخالفة المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائيّة (الحق في مقابلة محامٍ، التواصل مع الأهل، طلب تعيين طبيب شرعي)». كما طالب الإخبار في حال «ثبوت جرم التعذيب الادّعاء على المرتكبين أمام قاضي التحقيق المختصّ بجرم التعذيب المنصوص عنه في القانون 65/ 2017 (معاقبة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاانسانية أو المهينة)». نتيجة الإخبار يمكن أن تكون «الحفظ» كون المعتقلين أفرج عنهما، ويمكن أن تكون بحسب درجة إصرار القضاء على تطبيق العدل وحماية حقوق الإنسان في «مباشرة التحقيق بأسباب عدم تجاوب المراكز الأمنيّة مع المحامين وارتكابها عدداً من المخالفات المذكورة في الإخبار».