في مشهد موازٍ لذلك السلبي مع المسؤولين اللبنانيين وخاصة المعنيين في شأن تشكيل الحكومة، برز مشهد آخر لوزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان يوحي برؤية فرنسية مغايرة للواقع الذي شاءت باريس سابقا ان يختزل موقفها اللبناني.
تمثل الموقف الفرنسي الاولي منذ الزيارة الثانية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد كارثة انفجار المرفأ في 4 آب الماضي. حينها، ربما لم يكن امام الضيف الفرنسي سوى ادارة وجهه للتغير في المزاج الشعبي تجاه الطبقة الحاكمة وإيصال رسالة فرنسية مفادها أننا نتعاطى مع الواقع كما هو، وطالما ان الانتخابات في العام 2018 افرزت الوجوه المجلسية التي انبثقت الحكومة عنها، فلا نستطيع سوى الاعتراف بهذا الواقع ولسنا نحن من نغيّره على افتراض قدرتنا على ذلك.
تلقى الحراك الشعبي تلك الرسالة بانزعاج واعتبرها عدائية وعبّر عن رؤيته لماكرون الذي بدا وكأنه يخوض غمار تجربة لبنانية غريبة عليه!
مضت الايام والأشهر، ومعها انكشف واقع السياسة في لبنان عن الكثير مما خُدع به الفرنسيون او هم خدعوا انفسهم به، على ان النتيجة كانت واحدة عبّرت باريس عنها تسريبا ومن ثم تلميحا واليوم جهارا في ظهور علني وآخر بين الغرف المغلقة التي كان من بينها لقاء أمس الاول بين لودريان ومجموعات الحراك نفسها التي باتت باريس تنظر إليها بجدية أكبر هذه المرة!
والحال ان الاستياء الفرنسي بدا واضحا ولم يوفر فيه لودريان اي مسؤول وحتى انه وجه كلاما نقديا للحراك نفسه، لكنه صب جام غضبه على احزاب السلطة التي لم تلتزم بما تعهدت به اكثر من مرة وخاصة لناحية الالتزام بالمبادرة الفرنسية حتى بعد ان فرغتها من مضمونها حتى بات الفرنسيون يطلبون من اللبنانيين تشكيل أية حكومة كانت لتلتقطها باريس وتحجز مكانها في اللعبة اللبنانية والاقليمية المعقدة!
هي المرة الرابعة التي يزور فيها لودريان لبنان وهو حضر مرتين برفقة ماكرون. لكن التغير في المزاج الفرنسي بدا واضحا للعيان لدى مجموعات الحراك التي التقته في قصر الصنوبر.
قوى التغيير، وهي التسمية الرائجة اليوم لمجموعات الانتفاضة والمعارضة الحزبية لأركان السلطة والمجتمع المدني، استشفت تعاطيا أكثر مقبولية من الضيف الفرنسي الذي بات يقاربها في شكل اكثر جدية وواقعية. وقد بات يجتمع مع تلك المجموعات كمعارضة سياسية بدأت بتنظيم نفسها، بديلة عن معارضة مفترضة صنفها الفرنسيون كذلك سابقا مثل «القوات اللبنانية» و«الحزب التقدمي الإشتراكي»، ليقترب الخطاب الفرنسي من هذه المعارضة المستجدة. وبعد ان كان الشرخ عاموديا بين الطوائف وبين 8 و14 آذار، بات في وجهة النظر الفرنسية بين كل احزاب الطوائف التي استباحت المساحة العامة منذ بداية الحرب اللبنانية ولم تترك لغيرها مساحة لمعارضة منظمة، وكل الاصلاحيين من ناحية ثانية.
هذا كان الجديد في الامر حسب مشاركين، وما فعلته فرنسا انها اعترفت بهذا الامر مع العلم ان مجموعات 17 تشرين قد اتخذت بعض الوقت لكي تتنظم وتقيم إرهاصات جبهات، وبذلك باتت اكثر نضوجا ووحدة بالمطالب كما اكد الضيف الفرنسي في اللقاء.
على ان اللقاء لم يجمع الاركان الكبرى في الحراك كما هو معلوم، ومن دون الدخول في من حضر ومن غاب وهو ما بات معروفا، فإن الحاضرين يؤكدون نقلا عن السفيرة الفرنسية ان من دعي وغاب تلقى الزيارة بإيجابية وكان اعتذاره عن الحضور غير متشنج وغير سلبي.
وللحاضرين تأكيدهم بأن الرسالة التي تلقاها لودريان هي الاهم ومفادها ايضا ان لا عودة للانتداب وان التغيير المنشود يقع على عاتق اللبنانيين، وفي امكان الفرنسيين المساعدة والتسهيل وليس فرض الاصلاح الذي يتحمل مسؤوليته الداخل.
زيارة فاشلة للسلطة وناجحة للحراك
وفي قول لودريان ان زياراته كانت رسمية ومقتضبة ليبلغ الرسالة بالاجراءات، ما وقع فعلا وتبلغه المسؤولون اللبنانيون، في الوقت الذي ركز فيه على المعارضين للسلطة. وبذلك يمكن وصف الزيارة بالفاشلة للسلطة، والناجحة للحراك.
على ان لودريان قدم رؤيته لأهمية لبنان بالنسبة الى الخارج، وبين جميع دول المجتمع الدولي أكد ان فرنسا وحدها هي التي «تسأل عن لبنان»، وهو ما اثار مخاوف لدى المجتمعين استدركها الوزير الضيف بالاشارة الى انه وسط التغيرات الكبيرة في المنطقة ثمة احتمال كبير ان تكون المفاوضات والمتغيرات لصالح لبنان.. وليس على حسابه.
في هذه الاثناء يتابع المعارضون مخططهم بتوحيد الجهود لإضفاء التغيير المنشود في ميزان القوى في وجه «الاركان الستة» الذين يتحكمون بالمساحة العامة، في محاولة لتكوين اوسع جبهة ممكنة من اليسار الى اليمين واجتذاب اي معترض عبر مبادرة جامعة لكل من هو معارض لأحزاب الطوائف، في الوقت الذي تنتظر فيه البلاد استحقاقات خطيرة مثل رفع الدعم الذي قد يكون له مفاعيل فوضى اجتماعية لا يعبأ بها من في الحكم قد تفجر الغضب الشعبي في شكل عارم.