سمع اللبنانيون، رسميون وسياسيون ومواطنون، الرسائل المتعددة التي أطلقها وزير الخارجية الفرنسية جان ايف لودريان بكلّ الإتجاهات، والتي عبّرت عن الأسى العارم من استحالة إخراج لبنان من المدار الإيراني. محقون هم اللبنانيون الذين يخالون أنه لو قدّر للوزير الفرنسي الخروج عن القواعد الدبلوماسية وأصول التخاطب، لدعاهم للثورة على كل شيء وتحطيم ما تبقّى من هياكل فاسدة نتنة ونفوس هرمة تعيش سكرة الموت، وتحتل المؤسسات الدستورية ومواقع القرار، وقد أسبغت عليها كل الجشع والخنوع والاستسلام.
لم تضف زيارة بيروت شيئاً جديداً لما كان يعرفه لودريان عن حال لبنان، رسائله من باريس قبل الزيارة تؤكد أنّه يعرف جيداً مكامن العجز وتصحّر العقول وانعدام المبادرة، فليس خافياً عليه دور حزب الله في وصول الرئيس ميشال عون للرئاسة، وفشل سياسة النأي بالنفس وتطبيق إصلاحات «سيدر» وفي مقدّمتها سبر أغوار «مغارة علي بابا» في وزارة الطاقة، أحد أهم روافد المال السياسي، وهو لذلك لم يفاجأ بالموقف السلبي للرئاسة من إعلان الحياد الذي أطلقه البطريرك بشارة الراعي. كما أنّه يعلم تماماً ظروف إنتاج الحكومة ورئيسها الدكتور حسان دياب الذي آثر العيش خلف الأسوار، والذي فُقد على يده الدور الذي قامت به حكومات ما بعد الطائف في الحفاظ على علاقة متينة مع فرنسا، تعوّض سقوط موقع الرئاسة الماروني بشكل متزايد بيدّ دمشق ثم طهران منذ انتخاب الرئيس إميل لحود في العام 1998.
أدرك الوزير الفرنسي بما لا يقبل الشك هشاشة الدولة في لبنان ومدى الارتباك والضياع اللذين يعانيهما حكامها. محاولات التسطيح التي اعتمدها رئيس الجمهورية بطلب مساعدة فرنسا في السير بمكافحة الفساد وادعاء الإصلاح بالتعيينات العرجاء، وطلب رئيس المجلس النيابي مساعدة الجامعة اللبنانية أسوّة بالمدارس الكاثوليكية، وتبريرات رئيس الحكومة لفشل الحوار مع صندوق النقد، كلها لم تستطع إشاحة النظر عن سقوط تجربة الطوائف في الحفاظ على دور لبنان وإقامة الدولة. هشاشة السيادة الوطنية والتماهي الكلّي مع حزب الله عاشها الوزير الفرنسي من خلال حادث اعتراض الطائرة الإيرانية التي أصبحت همّاً لبنانياً، بالرغم من أنّ الإعتراض حصل فوق سوريا التي لم تعلّق على الموضوع، وأيضاً من خلال البيانات عن طائرات الاستطلاع الإسرائيلية التي تحلّق في سماء لبنان وتبادل التهديدات مع حزب الله عبر الجبهتين اللبنانية والسورية والذي أضيفت اليه بالأمس الاشتباكات في منطقة مزارع شبعا التي أضحت ساحة متعارف عليها لتبادل الرسائل بين حزب الله والعدو الإسرائيلي وتأكيد قواعد الاشتباك بينهما بمعزل عن أي حضور للشرعية اللبنانية.
الزيارة التي قام بها «لودريان» كانت أقرب الى «مونوغرافيا» (MONOGRAPHIE) يقوم بها باحث في علم الاجتماع السياسي، وترتكز على التحقيق أو الدراسة المعمّقة لحقيقة سياسية اجتماعية معيّنة، بالاستناد إلى الملاحظة المباشرة والمشاركة من خلال الاتصال مع الحقائق الملموسة، في تجربة حيّة تقع ضمن علم الاجتماع الشامل. ومن هذا القبيل الميداني يمكن فهم زيارة الموقع الماروني الأول الذي صاغ الفرنسيون لأجله دولة لبنان الكبير، والمؤسسات الدستورية التي أُخضعت له وفقاً لدستور 1926، والبطريركية المارونية الشريك المؤسّس في قيام لبنان، والمدارس الكاثوليكية الحاميّة والحاضنة للثقافة الفرنكوفونية، و«مؤسسة عامل الدولية» التي تنفذ برامج تعليمية وصحيّة مدعومة من فرنسا، من قبيل التأكيد على العلمنة والأخوة كقيمتين من قيم الجمهورية الفرنسية.
الرئاسة المارونية التي زارها لودريان لم تعدّ الحصن الذي يحمي لبنان الذي أرادته فرنسا، هي التي اعتبرت خطأً أنّ الاستمرار بالتمايز عن المواقف الأوروبية قد يعيد الرئاسة الى ما إئتُمِنت عليه. الرئاسة المارونية التي عاشت في حمى الميثاق الوطني تحت معادلة لا شرق ولا غرب بعد العام 1943، واحتضنتها عروبة لبنان في الطائف، اختارت اليوم الانزلاق في تحالف الأقليات حتى النهاية وتصفية حساباتها مع شركائها تمهيداً لإلغائهم، وهذا يتناقض كلياً مع النموذج الذي تريد فرنسا الحفاظ عليه. إنّ فرنسا التي أنهت علاقة الدولة بالكنيسة وتعيش في ظلّ قيم إنسانية وعلمانية وتخشى على لبنان من الزوال، أضحت ترى بقاءه في حياده المستند الى دستوره وعروبتة والإجماع العربي من القضية الفلسطينية.
ما رآه لودريان وما قرأه عن إجماع شرائح كبيرة من اللبنانيين، ومنهم مجموعات الثوار التي تعبّر عن المجتمع المدني، على الوقوف الى جانب البطريرك الراعي في مطالبته بحياد لبنان، في مواجهة تعنّت رئيس البلاد وإحجام عدد كبير من الشخصيات المسيحية، لا سيما المسترئسين منهم عن إنقاذ لبنان، إلى جانب غياب الدولة اللبنانية عن قرار الحرب والسلم الذي كرسته بالأمس اشتباكات مزارع شبعا، يستدعي لودريان أن يعلن نيابة عن فرنسا، وبأعلى صوته أنّ الرئاسة المارونية خارج كنف العروبة عاجزة عن حماية لبنان.