عندما تشتد الأزمات في دول العالم الديموقراطي، تسارع القوى السياسية، على إختلاف مواقعها في السلطة، موالاة ومعارضة، إلى التشاور في ما بينها، وفتح قنوات الحوار، بحثاً عن حلول مناسبة، أو على الأقل عن تسويات تختصر المضاعفات، وتُحاصر التداعيات، وتُجنِّب البلد من الوقوع في شر الإنقسامات.
آخر نماذج هذا المشهد أزمة رفع سقف الديون الأميركية، حيث جرت مفاوضات مضنية بين أقطاب الحزبين الديموقراطي الحاكم، والجمهوري المعارض، على مدى أسابيع مضنية، شارك في بعض مراحلها الرئيس الأميركي شخصياً، لتذليل العقبات التي كانت تعيق استمرار الحوار، والتوصل إلى الإتفاق المنشود بين الطرفين.
في لبنان، تسير الممارسات السياسية خارج الأعراف الديموقراطية، وتتغلَّب عليها الإعتبارات الشخصية، بالدرجة الأولى، ثم الحسابات الحزبية والشعبوية، وما تقتضيه عمليات «شد العصب» في الشارع، ولو على حساب مصلحة الوطن العليا.
في بداية أزمة الشغور الرئاسي في لبنان، طرح فريق الممانعة ترشيح رئيس تيار المردة سليمان فرنجية مرشحاً لرئاسة الجمهورية، فيما إتخذت المعارضة موقفاً مقاطعاً لجلسات التشريع في مجلس النواب. ومما فاقم الخلافات تعقيداً، إنقطاع سبل التواصل بين الأفرقاء السياسيين، والذهاب بعيداً في حملات التحريض والتجييش، كل فريق ضد الآخر، ولجوء الجميع إلى رفع سقف المواقف، بما يجعل كل واحد منهم بمثابة أسير موقفه، وهنا بيت القصيد.
أدّى هذا الواقع إلى إسقاط محاولات الحوار الداخلية والخارجية، لدرجة أن دول اللقاء الخماسي المهتمة بالوضع اللبناني، تجنبت الدعوة إلي طاولة حوار تجمع الفرقاء اللبنانيين، لإدراكها أن مناخ الإنقسامات العامودية بينهم هي من الحدّة، لا تُسهل الرهان على نجاح أي مؤتمر وطني للحوار، لأن الأرضية المطلوبة للتمهيد لمثل هذه الخطوة ليست متوافرة.
ولعل الإشكالية الأكبر أن الدعوات الداخلية للحوار قد صدرت من جانب الثنائي الشيعي، مقرونة بإعلان التمسك بفرنجية للرئاسة الأولى، الأمر الذي قطع الطريق على أي إمكانية لنجاح التواصل المباشر بين أفرقاء الأزمة، طالما أن الثنائي سيدخل إلى طاولة الحوار بشروطه، وبجدول الأعمال الذي يناسبه، وبإسم مرشحه لرئاسة الجمهورية. في حين أن أطراف المعارضة تتمسك بمرشحها جهاد أزعور، وبموقفها المعارض لعقد جلسات تقريرية لحكومة تصريف الأعمال، وتقاطع الدعوات للجلسات التشريعية في مجلس النواب.
وتبقى العقدة الأصعب بغياب أي طرف محلي ثالث، قادر على القيام بدور الوساطة، وتقريب المسافات بين الفريقين، ويعمل على تدوير الزوايا، والبحث عن نقاط مشتركة وصولاً إلى صيغة وسطية، تصلح لتحمل عنوان «تسوية مشرّفة»، بحيث لا يكون أي فريق أو طرف خاسر ، والآخر هو الرابح، لأن أساس المعادلة اللبنانية قائم على مراعاة التوازنات الطائفية والسياسية، حتى لا يكون هناك منتصرٌ ولا منكسرٌ، مهما كان واقع موازين القوى.
ولعل ملابسات هذا الواقع المرير، قد ساهمت في إجهاض مهمة الموفد الفرنسي جان إيف لودريان، الذي حاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولو من باب حفظ ماء الوجه، عبر توجيه رسائل الأسئلة الإستطلاعية إلى النواب المستقلين، والتي أثارت الزوبعة الأخيرة ضد الموفد الفرنسي ومهمته في بيروت، وأدت إلى تأخير عودته إلى النصف الثاني من ايلول.
إنتهاء مهمة لودريان بعد زيارته الأخيرة المتوقعة الشهر المقبل، وإنشغال دول اللقاء الخماسي بملفات أكثر إلحاحاً وأشد سخونة، سيؤديان إلى إعادة كرة الأزمة اللبنانية إلى الداخل، ويحمّل المنظومة السياسية مسؤولية ما ستؤول إليه الأوضاع المالية والمعيشية والإجتماعية من تدهور مريع، في حال لم تراجع الأطراف الحزبية في فريقي المعارضة والممانعة سياساتها، وتُعيد النظر في حساباتها، وتكون أكثر واقعية في مواقفها، وذلك تجنباً للوقوع في الإرتطام الكبير .
إن المرحلة التاريخية الصعبة التي يمرُّ بها الوطن، وما تحمله من تهديدات مصيرية وكيانية، تفرض على جميع الأطراف التواضع في التعاطي في الشأن الوطني، والتخلي عن مشاعر التفوق أو التميّز عن الآخر، والإقلاع عن الخطابات الشعبوية، ولغة «شد العصب»، لأن البلد على شفير الإحتضار، والشعب في حالة ضياع وإحباط، والوطن ينزف من طاقاته الشبابية وأجيال المستقبل بنسب متزايدة، ومقومات البقاء والصمود تتلاشى يوماً بعد يوم.
تواضعوا.. الأوطان لا تُبنى بالمكابرة والعناد!