لم يكن اللبنانيون بحاجة لعيد الأضحى ليتذكّروا ضحاياهم في أسوأ أزمة إقتصادية وإجتماعية ومعيشية يشهدها لبنان، منذ أكثر من مئة عام، بسبب سوء الإدارة والأداء السياسي، لهذه المنظومة الفاسدة التي عملت سرقة ونهباً، ولم تتورع عن إرتكاب أفدح عملية نصب في التاريخ، من خلال وضع اليد على أكثر من مئة مليار دولار من أموال المودعين.
والأنكى أن جرائم المنظومة السياسية مازالت مستمرة، وتتخذ أشكالاً مختلفة، وآخر مظاهرها هذه الدوامة المدمّرة للإستحقاق الرئاسي، والتي تهدد تداعياتها ما تبقّى من وجود مقومات الدولة، فضلاً عن المزايدات الشعبوية البغيضة التي يتبارى فيها رؤساء الأحزاب والكتل الطائفية، لشد العصب، والحفاظ على شعبيتهم الزائفة في أوساط جمهورهم، ولو على حساب مصالح البلاد والعباد!
صحيح أنها ليست المرة الأولى التي يسقط فيها البلد في الفراغ القاتل لرئاسة الجمهورية، خاصة أواسط العقد السابق، حيث إستمر الشغور الرئاسي سنتين ونصف السنة، قبل أن يصل العماد ميشال عون إلى كرسي الرئاسة الأولى، في صفقة ملتبسة بعد «إتفاق معراب»، جمعت الكتل الكبيرة في المجلس النيابي: المستقبل، والقوات والتيار والحزب.
ولكن الأصح أيضاً، أن تلك الأزمة الرئاسية أدخلت الخزينة في مخاطر الإفلاس، وضربت أوصال الدولة العميقة، وفتحت الأبواب أمام الأزمة الكبيرة التي إندلع أوارها في إنتفاضة ١٧ تشرين ٢٠١٩، وأدت انهياراتها المستمرة إلى هذا الوضع الدراماتيكي، الذي يتخبط فيه البلد منذ أكثر من ثلاث سنوات.
أكدت الأشهر السوداء للفراغ الرئاسي حجم الفشل الذي يهيمن على أداء الأطراف السياسية، أحزاباً وكتلاً نيابية، في إيجاد التسوية الوطنية اللازمة للوصول إلى توافق حول الرئيس العتيد، نتيجة سياسات المكابرة والمعاندة والمكاسرة التي تنتهجها تلك الأطراف، دون أن يكون لبعضها القدرة على إلغاء البعض الآخر، ولا حتى الإمكانية لأحدها أن يُلغي الآخر.
أفسح هذا العجز المتمادي داخلياً سياسياً وإقتصادياً، المجال واسعاً لتدخلات خارجية متعددة، بهدف مساعدة اللبنانيين على الخروج من هذا النفق المظلم، عبر إنتخاب رئيس الجمهورية وعودة الإنتظام للمؤسسات الدستورية، وفي مقدمتها السلطة التنفيذية، من خلال تشكيل حكومة كاملة الصلاحيات الدستورية، لتنفيذ الإصلاحات المنشودة، ووضع البلد على سكة الإنقاذ.
لا داعي للتذكير بإجتماعات دول اللقاء الخماسي في باريس، ثم اللقاء الثنائي الفرنسي ــ السعودي، وأخيراً مباحثات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مع الرئيس الفرنسي ماكرون في العاصمة الفرنسية، والتي أعقبها إنتقال الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان إلى بيروت، ومروحة اللقاءات الواسعة التي أجراها مع معظم المرجعيات الروحية والقيادات الحزبية والسياسية، والتي إنتهت دون التوصل إلى الحد الأدنى من القواسم المشتركة، تُمهّد لوصل ما إنقطع بين الأطراف المعنية بالإستحقاق الرئاسي، والجلوس إلى طاولة الحوار.
وما أن غادر الديبلوماسي الفرنسي المخضرم بيروت، حتى بدأت دعوات الحوار تصدر عن عدد من الأحزاب والقيادات السياسية، لا سيما حزب الله بالذات، دون التخلي عن المواقف المتمترسة خلف مرشح كل فريق. الأمر الذي يطرح عدة تساؤلات:
— ما معنى الدعوة للحوار إذا بقي كل فريق متمسكاً بطروحاته؟
كيف يمكن الوصول إلى طاولة الحوار في حال أصر كل فريق على شروطه؟
هل يمكن بلوغ حدود التوافق المنشود مع حرص كل فريق على إقناع الفريق الآخر بمرشحه؟
أليسَ من المعطيات الأساسية لنجاح الحوار أن يتراجع كل فريق خطوة إلى الوراء، ليلتقي الجميع على نقطة وسطية، ويؤدي التواصل المباشر إلى حل وسط، يُجسّد التوافق على قاعدة «لا غالب ولا مغلوب»؟
وهل تعنُّت كل فريق على فرض خياراته على الآخر، يؤدي إلى نجاح الحوار المنشود، ويحقق الأهداف المتوخاة منه؟
ولعل الأهم من كل ذلك: ماذا لو فشلت مهمة لودريان، ولم يتمكن من إقناع الأطراف الداخلية بالتوافق، أو لم يحصل على دعم شركاء فرنسا في اللقاء الخماسي، وخاصة أميركا والسعودية، لمهمته، وبالتالي تمديد تعليق الإجتماعات الخماسية، كما هو حاصل حالياً، ومنذ بضعة أشهر؟
هل يستمر الفرقاء اللبنانيون في عنادهم، وإطالة أمد الشغور الرئاسي، وإبقاء البلد يتخبط في إنهياراته، وإستنزاف البقية الباقية من قدرة الناس على تحمُّل المزيد من ضغوطات الأزمات المعيشية والإجتماعية الخانقة؟
لن ينفع عندها التراشق بتهم التعطيل والهيمنة التي يوجهها فريق المعارضة للثنائي الشيعي وحلفائه، كما لن تُفيد خطابات التخوين والعمالة التي يوجهها حزب الله لخصومه السياسيين في المعارضة. لأن البلد المنكوب وشعبه المقهور سيكونان هما الضحية، إذا لم تحدث معجزة كالتي أنقذت أبو الأنبياء إبراهيم من التضحية بإبنه إسماعيل!