لا يمكن قراءة الأسئلة التي وجهها الموفد الفرنسي جان إيف لودريان الى الكتل النيابية اللبنانية حول المشاريع والأولويات المتعلقة بولاية رئيس الجمهورية المقبل والمواصفات التي يجب أن يتمتع بها، إلا في سياق الضبابية التي تحيط بالمشهد الإقليمي وعدم اتّضاح الأولويات الدولية في منطقة الشرق الوسط المنفتح على مروحة من الإحتمالات.
الردود اللبنانية اعتبرت ما ورد في رسالة لو دريان بمثابة تسخيف للأزمة القائمة وسطحية فرنسية في إدراك عمق التباينات أو استخفاف بعقول المعنيين بالملف الرئاسي بما لا يشكّل أي مؤشر نحو إنجاح الحوار المرتقب في شهر سيتمبر/أيلول المقبل. لكن التساؤل المنطقي الذي يطرح نفسه ههنا هل يمكن لرسالة الوسيط الفرنسي أن تنفصل عن لقاء باريس الذي عقد في شباط/فبراير 2023 وضم إلى جانب فرنسا، الولايات المتحدة والسعودية ومصر وقطر، على مستوى دبلوماسيين، لبحث الأزمة السياسية اللبنانية، أو اللقاء الخماسي في الدوحة في تموز / يوليو المنصرم؟ أليست أسئلة لودريان وربما تأجيل زيارته المرتقبة الى بيروت في أيلول /سبتمبر حلقة في سياق إدارة الوقت المستقطع قبل اتّضاح الاولويات الدولية والخيارات الإقليمية؟
لقد دُفع لبنان لتشكيل أحد المربعات الدقيقة لهذا المشهد الإقليمي المعقد والممتد من الخليج العربي حتى البحر المتوسط مروراً بالبحر الأحمر، والزاخر بالمتغيّرات الميدانية والسياسية، وقد توسّعت ميادينه الآن ليبلغ شواطئ الأطلسي بعد أن إضيفت إليه صراعات مستجدة في إفريقيا على خلفية شراهات إقتصادية بين قوى دولية وإقليمية. فأي موقع وأيّة أولوية لرئاسة الجمهورية في لبنان في هذا الإقليم الذي يختزن ثروات هائلة وتعيش على أرضه الشاسعة إثنيات وأعراق مختلفة وتتجابه في مياهه وممراته أعظم الأساطيل وتستبيح الجماعات الأصولية حدود دوله وتسقط أنظمته تحت وطأة حروب دولية؟ ربما لم يجد الوسيط الفرنسي لودريان وسيلة أنجع من أسئلة ساذجة يطرحها على ساسة لبنان الذين استطابوا العبث والفساد لملء الفراغ في المشهد الإقليمي!!!
يدرك المعنيون بالشأن السياسي في لبنان أنّ اتّفاق الدوحة قد أخضع لبنان لمعادلة إقليمية /دولية امتدت الى كل مفاصل السلطة، وأن المعادلة السياسية التي أنتجها الإتفاق خلافاً للدستور أدخلت الرغبات الإقليمية والدولية إلى صلب الحياة السياسية وأخضعت المؤسسات الدستورية برمّتها للمعادلة الإقليمية عينها. الساسة في لبنان هم امتداد لميزان القوى الإقليمي أو هم في أفضل الأحوال متعايشون مع الوضع القائم. وتحت مظلة الرضوخ للوضع الإقليمي وضمن الحدود المتاحة تدار لعبة المال السياسي لتحقيق المصالح الشخصية وتصبح حقوق المذاهب والطوائف وعناوين العيش المشترك والميثاقية حتى الممانعة والتحرير هي الأدوات المحركة للجماهير ولوازم إنجاح المشهد المطلوب.
في هذا السياق وأمام ما ينضح به الإقليم من مؤشرات لإنقلابات جذرية في موازين القوى والتفاهمات وتبدّل الأدوار يصبح الفصل الأكثر مدعاة للإحباط هو الدعوة لحوار بين فرقاء سياسيين مفترقين حول مفهوم الدولة والسيادة وتشكيل السلطة ومرجعيتيّ الدستور والقانون ومختلفون حول مفاهيم الحق والخير والجمال. أما الدعابة الكبرى ففي إدعاء القدرة على التوافق المحلي لملء الشغور الرئاسي وفي تبادل الشروط لإنجاز توافق محلي على الرئيس العتيد يفرض على المتمعين الدولي والإقليمي .
وفي معرض الحوار بين حزب الله والتيار الوطني الحر بشخص رئيسه يوجز الوزير السابق جبران باسيل شروطه للقبول بالوزير السابق سليمان فرنجية بإقرار اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة تجاوزاً لإتفاق الطائف وإقرار الصندوق الإئتماني لحفظ ثروات لبنان من النفط والغاز من أجل الأجيال القادمة. إن افتقاد هذا الحوار للتوازن لا يقتصر على عدم قدرة الحزبين المتحالفين بالشكل والمختلفين في المضمون على تأمين أكثرية ثلثيّ المجلس النيابي لتعديل الدستور وإقرار اللامركزية المالية المطلوبة، ولا في طموح من هدر ثروات الوطن لحماية ثروات الأجيال التي لم تأتِ بعد، بل في عدم موافقة حزب الله على مطالب باسيل في الوقت الذي منح الحزب لنفسه الحق بتطبيق لامكزية إدارية ومالية وقضائية وإقتصادية وأمنية موسّعة حيث امتد نفوذه في لبنان والخارج.
بعد كل ذلك أليست أسئلة لودريان موجبة ومحقة..؟ وماذا ينتظر اللبنانيون من الحوار في أيلول؟
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات