ليس في الموقف الفرنسي من الوضع اللبناني، ولا في مواقف اللبنانيين من الدور الفرنسي ألغاز. ولا جدوى من الركون الى الإنطباع السائد أن في موقف باريس نوعاً من سوء الفهم مقابل سوء التفاهم معها في مواقف اللبنانيين. لا عندما جاء الرئيس إيمانويل ماكرون الى بيروت في أعقاب إنفجار المرفأ، وقام بدور «دونكيشوت سياسي» أراد إنقاذ لبنان من الإنهيار على أيدي الذين دفعوه الى الإنهيار. ولا في المبادرة الفرنسية لإنهاء الشغور الرئاسي، سواء في مرحلة الإنحياز الى خيار. «الثنائي الشيعي» والإصصدام بالفشل أو في مرحلة الإصطفاف ضمن «الخماسية» العربيه والدولية وإلتزام موقفها من خلال الدور الذي يقوم به الموفد الرئاسي الفرنسي المخضرم جان إيف لودريان.
ذلك ان لبنان اليوم ليس لبنان الكبير الذي أعلنت فرنسا قيامه، وحكمته وبقيت صديقة له بعد الإستقلال، وأقامت فوقه مثل الفاتيكان مظلة حماية ديبلوماسية. وهذا ما تدركه باريس جيداً، على عكس الذين يتصورون أنها تسيء فهمه. وفرنسا اليوم ليست فرنسا التي لها تاريخ يعود الى القرن الرابع عشر من العلاقة مع جبل لبنان وحمايته عبر اتفاق بين الملك فرنسوا الأول والسلطان سليمان العظيم، ثم بالقوة العسكرية عام 1880، ولا حتى فرنسا الجنرال ديغول الذي عاقب إسرائيل عندما اعتدت على مطار بيروت في أواخر الستينات من القرن الماضي. وهذا ما يتردد اللبنانيون في إدراكه، وخصوصاً بالنسبة الى الذين اعتادوا الإعتماد على «الأم الحنون».
مهمة لودريان في ايلول مفخخة في بيروت، قبل كونها مفخخة في باريس على أيدي فريق الإليزيه، ومصحوبة برهانات محدودة جداً في واشنطن والرياض والقاهرة والدوحة. والرسالة التي بعث بها الى النواب طالباً الإجابة الخطية على سؤالين حول الإستحقاق الرئاسي وتسليم الأجوبة الى السفارة الفرنسية قبل نهاية آب، بدت ممارسة فظة لديبلوماسية المهمة. ولكن، ما الذي يتوقعه النواب العاجزون عن انتخاب رئيس منذ ايلول الماضي من الموفد الفرنسي الذي يحثهم على القيام بواجبهم؟ وما الذي ينتظره الموفد الذي يعرف من وما يعطل الإنتخاب، ودور بلاده في الإنحياز الى خيار المعطلين حتى يضمنوا الأصوات اللازمة لمرشحهم، بحيث يمارسون أغرب أنواع «الديكتاتورية» التي لا مثيل لها في اي نظام ديمقراطي او شبه ديمقراطي؟
لا احد يجهل ما يحتاج اليه لبنان كمحطة إجبارية على الطريق الى التعافي. ولا جديد يُمكن ان يحصل عليه لودريان الذي التقى الجميع من قبل، وسجّل أجوبتهم وآراءهم ورؤاهم، ثم غربلها على أمل إيجاد خلاصة مفيدة. ولا معنى للبحث في مواصفات الرئيس بعدما جرى تحديدها تكراراً في الداخل وفي اجتماع «الخماسية» العربية والدولية في الدوحة، وصارت الأسماء في صندوقة الإقتراع في المجلس النيابي وعلى الألسنة. السؤال المطروح على الموفد الفرنسي و»الخماسية» واللبنانيين هو: صدام المصالح ام التفاهم على المبادئ والقيم؟ والمسألة هي يكون لبنان او لا يكون.
وعسى أن يتذكر لودريان قول بول فاليري: «يجب أن تكون خفيفاً مثل طائر وليس مثل ريشه».