أجمع المراقبون على انّ هناك فرصة إضافية استطاعت باريس ان توفّرها لموفدها الرئاسي جان ايف لودريان، ليقود مسعاه الأخير. فالهجمة الديبلوماسية التي شنّها الرئيس ايمانويل ماكرون، ساعدت موفده على تحديد موعد جولته اللبنانية الثالثة بالصيغة التي اعتُمدت. وبعدما فرمل رئيس مجلس النواب نبيه بري مبادرته لأيام قليلة، تريثت قطر في تقديم طرحها، انتظاراً لما يمكن ان يحققه لودريان. وعليه، ما هي مؤشرات هذا السيناريو؟
حرصت مصادر ديبلوماسية وسياسية على بث «جرعة خفيفة» من التفاؤل في مسار مهمّة لودريان، الذي سيبدأها في بيروت الاثنين المقبل، من دون التمادي بعيداً في توقّع ما يمكن ان تكون الآلية التي سيعتمدها، وما يمكن ان تنتهي اليه طروحاته الجديدة. ومردّ ذلك إلى ما تسرّب من معلومات في الأيام القليلة التي أعقبت الاتصال الطويل الذي جرى بين ماكرون وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان تحضيراً للقمة الثنائية المنتظرة بينهما اليوم، على هامش أعمال قمة العشرين في الهند، والتي ستشكّل تتمة للمحادثات التي جرت في لقائهما الباريسي في 16 حزيران الماضي، وما تلاه من محادثات حول الملف اللبناني في محطات عدة.
وإلى هذا المسعى الفرنسي ـ السعودي، توقفت المصادر عينها أمام المعلومات التي تسرّبت في الساعات الاخيرة، وتحدثت عن تريث قطر في استئناف مهمّة وفدها العامل في لبنان منذ فترة غير قصيرة، انتظاراً للنتائج التي يمكن ان ينتهي اليها لودريان في زيارته المقرّرة لبيروت. وذلك في ظلّ ما اسفرت عنه الاتصالات المكثفة التي أجراها اخيراً مع ممثلي دول «لقاء باريس الخماسي»، من تفاهمات على بعض الخطوات التي يمكن ان يخطوها في الحوارات المنتظرة على مدى الايام الثلاثة التي تعهّد بها فور وصوله الاثنين المقبل، ومباشرة اتصالاته وفق جدول محدّد بدءاً من صباح اليوم التالي.
وإلى هذه الملاحظة الأساسية المتصلة بجانب مهمّ من زيارة لودريان، لا تتجاهل المصادر عينها تريث رئيس مجلس النواب نبيه بري في توجيه الدعوة التي أطلقها شفوياً في الذكرى الخامسة والأربعين لتغييب الامام موسى الصدر، الى طاولة حوار «الأيام السبعة»، إلى ما بعد زيارة لودريان، لتعطي مؤشراً اضافياً ايجابياً إلى ما هو متوقع من هذه الجولة الفرنسية. فالحديث عن موافقة اكثرية نيابية على المشاركة في طاولة بري الحوارية لها قراءة أخرى، تُسقط أهمية اللجوء إلى منطق العدد. فبعض الشروط التي وضعها موافقون تتجاوز مبدأ الرفض والقبول إلى مزيد من العِقَد. ولذلك يسود اعتقاد انّ هذه المرحلة ستكون حاسمة، ولن يطول انتظار ما يمكن ان تنتهي اليه اكثر من ثلاثة او اربعة ايام، إذ انّ كل المعلومات تشير الى انّ لودريان لن ينهي زيارته هذه المرّة قبل ان يعلن عن حصيلتها اياً كانت النتائج. فالمهمّة التي كلّفه ماكرون بها اقتربت أو تجاوزت بأيام قليلة المهمّة الجديدة التي كُلّف بها برئاسة الهيئة الفرنسية العليا لتطوير العلا السعودية، ولا بدّ له من الالتحاق بمركز عمله في موعد لا يتجاوز انتهاء ولاية سلفه نهاية أيلول الجاري.
وبناءً على ما تقدّم من هذه المؤشرات، بقيت الجهود منصّبة على فهم حجم الدعم الذي حظيت به مهمّة لودريان على مستوى الخماسية الدولية، وخصوصاً انّ هناك نظرية ثابتة لا يمكن تجاوزها، وهي تقول انّه لو بقيت مهمّة لودريان وقفاً على الدور الفرنسي المكلّف به، لكانت زيارته وداعية للبنانيين، ولربما لم يكن قد قرّر المضي بها في بيروت. ولكن ما استجد انّ مستوى الدعم الخماسي – ولو كان محدوداً في شكله وتوقيته ومدى تفويضه – اعطاها زخماً إضافياً يسمح له بالقيام بالتجربة الأخيرة «لإقناع» اللبنانيين لا بل «إجبارهم» على اتخاذ بعض الخطوات العملية التي تفضي الى إنهاء الفراغ الرئاسي قبل القيام بأي عمل آخر.
فقد بات واضحاً انّ أعضاء الخماسية لم يجمعوا على حوار لبناني ـ لبناني قبل انتخاب الرئيس، الذي سيكون عليه أن يرأس ويدير هذا الحوار والمرحلة التي تليه، لتنفيذ ما يمكن ان ينتهي اليه، بدل تكبيله بتفاهمات مسبقة قد لا يكون قادراً ومعه حكومته الجديدة على تنفيذها، في ظلّ التوقعات بإمكان حصول أي انقلابات داخلية تنقل قوى لبنانية مؤثرة في «ليلة صيف إقليمية» من مكان إلى آخر. فالتجربة السابقة التي رافقت وتلت ولادة «إعلان بعبدا» الذي اعتُبر «وثيقة» أُودعت الأمم المتحدة والجامعة العربية، لم تُنس بعد، وخصوصاً في اللحظة التي اعتبره «حزب الله» غير موجود، ودعا الى «غليه وشرب مائه» عند انخراطه مباشرة في الحرب السورية. فالمرحلة المقبلة قد تشهد استحقاقاً شبيهاً بهذا النوع، طالما انّ التفاهمات السعودية ـ الايرانية لم تستقر بعد، او انّها لم تصل بتداعياتها الايجابية، إن تحقّقت، إلى لبنان بعد، عدا عمّا يمكن ان يشهد مسار المفاوضات على مستوى الملف النووي الايراني من عقبات كبرى، تعوق مساره النهائي مع واشنطن ومجموعة الـ (5+1)».
على هذه الخلفيات، بُنيت التوقعات الايجابية المحدودة، وإن كانت من باب التوقعات، فإنّ الايام المقبلة ستشهد على مدى تطورها وما يمكن ان تؤدي اليه. فتجميد بعض التحرّكات الإقليمية والدولية والمحلية يوحي بهذه «الفرصة الإضافية» المعطاة للودريان ليثبت قدرته على تحقيق اي إنجاز، وهو ما يلقي على المسؤولين اللبنانيين مهمّات اضافية وبالغة الدقّة. ولذلك تتجّه الأنظار بقوة الى برنامج لودريان وما سيقوم به في بيروت، وإن كان سيحمل في لقاءاته الثنائية وربما الثلاثية، مخرجاً ما يمكن ان يقود الى ما هدف اليه بري في دعوته الى طاولة الحوار، فتُعقد سواء عبر خريطة طريق لودريان او خريطة بري، إن تلاقت الجهود الدولية على مثل هذه الخطوة. فتصح عندها السيناريوهات الايجابية ولو بحدّها الأدنى المتوقع أمراً واقعاً طال انتظاره.
عند هذه القراءة الإيجابية التي يشكّك فيها كثر، تقف الامور على مستوى الاستحقاق الرئاسي، ليبقى الرهان قائماً على يقظة داخلية تلاقي أجواء ايجابية قد تكون انتهت اليها بعض التحرّكات المعلن عنها وتلك الجارية في الكواليس. ولعلّ الحديث المتنامي عن مرشحين جدد لدخول السباق الى قصر بعبدا، قد يتطور الى ما هو مأمول منه، لتعيش البلاد أجواء ايجابية قبل دخولها مجموعة من الأنفاق المخيفة التي يمكن ان يدخلها سوق النقد، في ظل عدم وجود أي مخرج لتوفير حاجات الدولة ومؤسساتها لمزيد من التمويل المفقود والمشاريع المتعثرة، لزيادة مواردها، وغياب المساعدات الخارجية التي باتت رهن الخطوات التي على اللبنانيين اتخاذها، ولم يقدّموا نموذجاً واحداً يوحي إمكان القيام بها حتى اللحظة.