قبل ساعات على عودة الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان إلى بيروت، تقلّصت السيناريوهات التي تحاكي مهمّته، وباتت محصورة بما يمكن ان تنتهي إليه لقاءات باريس الاستخبارية والديبلوماسية في شأن قطاع غزة، لتنعكس لاحقاً على لبنان، وهو أمر يخفّض من حجم الرهان على جولته الجديدة. وإن بقي الاتكال على ما حققته «الخماسية» سيكون عليه البحث عن «إبرة المخرج» في كومة القش اللبنانية. وعليه، كيف يمكن الوصول إلى هذه الخلاصة؟.
اكتملت الاستعدادات اللوجستية والإدارية والديبلوماسية الخاصة بزيارة لودريان إلى بيروت، وحُدّدت المواعيد التي سيجريها، بعدما أُضيف إلى مواعيد رئيسي مجلس النواب نبيه بري والحكومة نجيب ميقاتي ورؤساء الكتل النيابية المعنية بالاستحقاق الرئاسي، لقاء لا بدّ منه مع البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، الذي وإن تمّ استثناؤه من أي جولة لموفد فرنسي يكون ذلك استثنائياً، فكيف إن كان موفداً رئاسياً، ومع قائد الجيش العماد جوزف عون، لترجمة الضمانات الفرنسية المعطاة للمؤسسة العسكرية في المرحلة الراهنة، من ضمن قرار بحماية المؤسسات الضامنة لوحدة البلاد وأمنها القومي والوطني.
وبناءً عليه، فإلى هذه اللقاءات التي توزعت بين عصر اليوم ونهار غد بكامله، تقرّر ان يلتقي لودريان أعضاء كتلة «الإعتدال النيابية» إلى مائدة الغداء في قصر الصنوبر ظهر غد الأربعاء، في محاولة للتنويه بالمبادرة التي ستخوضها الكتلة بالتنسيق مع بعض أعضاء «الخماسية»، في ظل التمييز بين متانة علاقاتها مع السفير السعودي خصوصاً وعلاقتها ببقية سفراء «الخماسية». كما سيكون هناك لقاء آخر مع النائب غسان السكاف الذي يقوم بمبادرة لم تكن بعيدة من أجواء عدد من أعضاء «الخماسية» وقد استعار منها بيان «الخماسية» عقب لقائها في السفارة الاميركية قبل عشرة أيام إحدى الافكار الخاصة بها ومفادها «لائحة صغيرة من المرشحين» يخوض من حملتهم على متنها السباق إلى قصر بعبدا متى ذُلّلت عقبة الجلسة الانتخابية والدورات المتتالية التي تليها دون انقطاع، مع ضمان الاحتفاظ بالنصاب القانوني المطلوب حتى انتخاب الرئيس.
وعلى رغم من هذه التحضيرات التي أتمتها السفارة الفرنسية قبل وصول لودريان، بقي هناك عمل كثير يجب إنجازه قبل بدء جولته في لبنان، سعياً لتحقيق اي خرق يمكن ان تؤدي اليه، مع الاعتراف مسبقاً بحجم العقبات التي تحول دون مثل هذه الخطوة المنتظرة لتغيّر في المشهد الرتيب الذي يعيشه الاستحقاق الدستوري، طالما انّ الحرب مستمرة في الجنوب تزامناً مع استمرار العدوان على قطاع غزة وفشل كل المساعي المبذولة للفصل بين الخيارات العسكرية في المنطقة والوضع في لبنان. وهو ما أُعلن من قبل على لسان أكثر من ديبلوماسي متصل بالخماسية خصوصاً، وآخر لبناني يحلم بمثل هذه الخطوة التي يتصدّى لها «حزب الله» اياً كان الثمن المكلف، وخصوصاً إن صدقت التسريبات التي قالت انّها من الأهداف التي يسعى اليها الرئيس بري بعيداً من الضوضاء التي أحدثتها المواقف الداعية لمثل هذه الخطوة، ومنها تلك التي تحدث عنها الرئيس السابق للحزب «التقدمي الإشتراكي» وليد جنبلاط، كما صدرت على لسان معاونه السياسي النائب علي حسن خليل ولقيت استغراباً لدى شريك الحركة الأساسي في الثنائية الشيعية.
وعلى هذه الخلفيات، كشفت المعلومات التي تسرّبت من لقاءات باريس، انّ لودريان يمكنه ان يستغل بعض ما تحقّق في عطلة نهاية الأسبوع في العاصمة الفرنسية، والتي جمع إحداها مدير المخابرات الاسرائيلية ديفيد برنياع مع نظيره الاميركي مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) وليام بيرنز ورئيس وزراء قطر محمد بن عبد الرحمن آل ثاني الذي خُصّص للبحث في الاقتراحات الجديدة التي حملها المسؤول الإسرائيلي في شأن الترتيبات المقترحة لوقف النار وما يستلزم من إجراءات ترافق أي اتفاق لتبادل الأسرى لدى «حماس» ونظيرتها الفصائل الفلسطينية المعتقلين والموقوفين في السجون الإسرائيلية والذي انتهى إلى موافقة اسرائيلية على استئناف المفاوضات في القاهرة هذا الأسبوع على خلفية الإصرار الدولي والإقليمي لتحقيق هذه الخطوة التي عجزت المبادرات السابقة عنه وإن بلغت مرحلة متقدّمة فإنّها لم تُتوّج باتفاق نهائي يفتح الطريق الى مرحلة اليوم التالي للحرب.
وإلى هذه المعطيات التي حملتها المعلومات من العاصمة الفرنسية، فإنّ اللقاء الذي جمع ماكرون مع أعضاء اللجنة الوزارية العربية التي كلّفتها القمة العربية – الاسلامية الطارئة في شباط الماضي ملف غزة، تناول الوضع في لبنان في جزء منه. وقالت المعلومات إنّ وزراء الخارجية الممثلين في «الخماسية» الخاصة بلبنان (قطر، المملكة العربية السعودية، مصر وفرنسا) شدّدوا عند طرح الخيارات المتاحة أمامها على ضرورة إعطاء الزخم للمبادرات التي تؤدي إلى تهدئة الوضع في لبنان وتأهيله ليكون حاضراً على طاولة المفاوضات كدولة كاملة المواصفات الدستورية يمكن ان يفضي إليها الحل في غزة والمنطقة، والتي لا تكتمل من دون وجود رئيس للجمهورية. ذلك انّ الاقتناع بات شاملاً بأنّ أي اتفاق يمكن التوصل اليه مع «حزب الله» ومعه من يمسك اليوم بـ «السلطة العرجاء» في لبنان، لا يمكن تكريسه قانونياً ودستورياً في ظلّ غياب رأس السلطة الإجرائية، وهو ما يدفع بإتمام هذه الخطوة قبل استكمال البحث في الصيغ القابلة للتنفيذ، وستبقى كلها مهما تقدّمت حبراً على ورق.
وقياساً على ما تقدّم، فإنّ أي دعسة ناقصة تُصاب بها التفاهمات التي تمّ التوصل اليها في باريس يمكن ان تنهي مهمّة لودريان قبل ان تبدأ. ومن هنا نشأ القلق الذي تسرّب عصر أمس إلى قلوب الديبلوماسيين المنخرطين بترتيبات الزيارة، ومردّه إلى الاشتباك الاسرائيلي مع الجيش المصري عند معبر رفح واستشهاد عسكري مصري وجرح آخرين، والذي زاد في الطين بلّة بتزامنه مع مضمون وتوقيت بيان «حماس» الذي رفض استئناف المفاوضات عقب «مجزرة رفح» الجديدة التي نفّذتها القوات الاسرائيلية في حق المدنيين الفلسطينيين النازحين من ضمن القطاع بقصفها مراكز الإيواء التابعة لوكالة «الأونروا»، وهي عملية لم تنكرها القيادة العسكرية الاسرائيلية لمجرد انّها اعترفت بسقوطهم نتيجة غارات مكثفة استهدفت قياديين من حركة «حماس» قتلوا في المجزرة إلى جانب عدد من المدنيين الذين صودف وجودهم في المكان المستهدف كما قال، وهو ضمّ اعترافه بالعملية ونتائجها بالكشف عن تحقيق عسكري بوشر به للتثبت مما حصل.
وعليه، فإنّه لا يمكن للمراقبين ان يتجاهلوا أهمية وخطورة ما قامت به القوات الإسرائيلية بتحدّيها القرارات الصادرة عن محكمتي العدل والجنائية الدولية اللتين أمرتا بوقف الحرب في رفح وفتح المعابر أمام المساعدات الإنسانية، بعدما نفدت من كثير من المخازن الأممية والتي عدّت تراجعاً عن تعهداتها في لقاءات باريس باستئناف المفاوضات حول الأسرى والترتيبات الأمنية، وهو ما قد يؤدي إلى إنهاء مهمّة لودريان قبل ان تبدأ بساعات قليلة وصولاً إلى اعتبار انّه سيكون عليه ان يفتش عن إنجاز هو كناية عن «إبرة يُحاكُ بها المَخرَج» في كومة القش اللبنانية التي يمكن ان يضيع فيها جمل.