سنة 1988، كان قد مرّ أحد عشر عاماً على اغتيال النظام السوري زعيم الحركة الوطنية اللبنانية كمال جنبلاط. وكان وريثه، في زعامة الطائفة الدرزية والأحزاب «الوطنية»، وليد، قد كرّس نفسه قائداً لا يمكن تجاوزه أو الالتفاف حوله في السياسة اللبنانية وفي الحرب الأهلية التي كانت رحاها تدور في تلك الأيام.
كان في رصيد وليد جنبلاط حينذاك، انتصاره الكبير في حرب الجبل سنة 1983 وقيادته «انتفاضة 6 شباط» (فبراير) 1984 (بالشراكة مع نبيه بري) ومشاركته في مؤتمري جنيف ولوزان كطرف رئيس في الصراع اللبناني، وبالنسبة إلى هواة التاريخ هناك خطابه في بيت الدين سنة 1985 الذي أعلن فيه فوز الطائفة الدرزية على بشير الثاني الشهابي وسعيه إلى القضاء عليها، إضافة إلى «الاتفاق الثلاثي» الذي ضم حزبه التقدمي الاشتراكي وحركة «أمل» و «القوات اللبنانية» برعاية سورية لإنهاء الحرب. وعدد لا يحصى من المعارك في بيروت وغيرها ضد حلفاء- أعداء أسفر آخرها في شباط 1987 عن عودة القوات السورية إلى العاصمة اللبنانية.
مناسبة العرض هذا هي الكلمة التي ألقاها وريث آخر، هو سعد الحريري، أثناء تفسيره أسباب تأييده ترشيح ميشال عون لرئاسة الجمهورية. أعاد الحريري السبب الأكبر لخطوته إلى توافقها مع نهج والده الراحل رفيق الحريري، وأن الأب كان سيقدم عليها لو واجه التحديات ذاتها التي واجهها الابن.
لا جدال في الاختلاف الكبير في الظروف التي أحاطت بكل من وليد جنبلاط وسعد الحريري. ولا جدال أيضاً في الصعوبات الجسيمة التي واجهها الحريري في الحفاظ على زعامة أبيه وموقعه اللبناني والدولي في ظل وضع غير مؤاتٍ. لكن المسألة ليست في اختلاف الظروف، بل في القدرة على إعادة بناء قيادة جديدة في سياق سياسي، محلي وخارجي، مختلف تمام الاختلاف عن الذي عملت الزعامة السابقة فيه. هنا يبرز نجاح ساطع لوليد جنبلاط، الذي التقط الفارق الكبير بين ظروف لبنان قبل اغتيال أبيه وبعده، وأعاد صوغ زعامته لتتلاءم مع المعطيات الجديدة. لم يولِ وليد جنبلاط اهتماماً جدياً بالإرث الفكري الذي تركه كمال. ولم يهتم كثيراً بـ «التقدمية الاشتراكية» التي يحمل حزبه اسمها. كان مدركاً عمق الحقائق الطائفية وتوازناتها وعلاقات القوة بين مكوناتها وهامشية كل السمات الثانية في السياسة اللبنانية. لنتذكر على سبيل المثال كيف جاء وليد جنبلاط إلى بيروت بعدما باغته شمعون بيريز في قصر المختارة أثناء الاجتياح الإسرائيلي وكيف انحسر نفوذه على أيدي «القوات اللبنانية» في 1982-1983 إلى بعض القرى في الجبل، لكنه تمكن من كسر هذه القيود والخروج أقوى من السابق.
بكلمات ثانية، أقام وليد جنبلاط زعامته على شاكلة الظروف التي أحاطت به، مقللاً إلى الحد الأدنى الاستعانة بالإرث الأبوي. في المقابل، لم يستطع سعد الحريري بعد أحد عشر عاماً على اغتيال أبيه (على أيدي النظام السوري وأتباعه أيضاً) تقديم نفسه كزعيم أنجز زعامته بنفسه ووفق ظروفه الخاصة. فإضافة إلى خطابه الأخير في تبرير ترشيح عون والذي يستند فيه إلى رفيق الحريري لتمرير موقف لا يلقى قبولاً عند أجزاء وازنة من قاعدة «تيار المستقبل»، فإنه لم يجد غير إعلان الافتقار إلى المال –أحد عناصر بناء الزعامة في لبنان– والتضحية من أجل منع سقوط لبنان (وهذا صف من الكلمات الكبيرة التي تحتاج تفسيراً) للتراجع عن مرشّحَيه السابقين، سمير جعجع وسليمان فرنجية.
ليست الظروف وحدها ما يحكم بناء الزعامة في لبنان. كان لألبرت حوراني وروجر أوين رؤى حول «الزعيم» في لبنان. ربما تكون المقارنة بين وليد جنبلاط وسعد الحريري نموذجاً عنها.