أكتب… كي أفجر الأشياء، والكتابة انفجار أكتب… كي ينتصر الضوء على العتمة، والقصيدة انتصار… أكتب… كي تقرأني سنابل القمح، وكي تقرأني الأشجار كي تفهمني الوردة، والنجمة، والعصفور، والقطة، والأسماك، والأصداف، والمحار… أكتب… حتى أنقذ العالم من أضراس هولاكو ومن حكم الميليشيات، ومن جنون قائد العصابة» نزار قباني
في نطاق بعض التعليقات حول مقالي الأخير حول جمهورية اسكوبار وتحليل التهريب، قال أحد المعلقين انه من الطبيعي أن تستخدم كل السبل غير الأخلاقية وغير القانونية في سبيل الانتصار، ومن ضمنها تهريب المخدرات وغيرها طالما أن الهدف هو نبيل! بالطبع هذا يذكّرني بوضوح بمسألة معروفة هي أن الغاية تسوّغ الوسيلة. الواقع هو أنّ كل طغاة العالم يفترضون أن لديهم غاية نبيلة، أكانت لشعبهم أو لشخصهم، وأحياناً كثيرة للبشرية جمعاء. هذا بغضّ النظر عن رأي الضحايا الكثر الواقعين في مطحنة الأهداف النبيلة التي يتربع على عرش إدارتها شخص من الناس، يظن أنه موحى له أو مبشر أو موعود بالنصر… فيتحول فجأة إلى معصوم أو شبيه بالأنصاب والأوثان، لا أحد يجرؤ على مجرد السؤال البديهي الذي يجب أن يخطر على بال العاقل وهو: من أين لك تلك الصفات وما أنت سوى بشر؟ ومن حلّل لك خرق المعايير الأخلاقية؟ ومن أوكلك بالمهمة العظيمة التي تطحن فيها البشر والحجر على طريقها؟ وكيف يمكن أن تستمر في تكديس الضحايا بالرغم من الإخفاقات والخسائر المتراكمة وانسداد الأفق في إمكانية النصر؟؟؟ كلها لها أجوبة جاهزة مثل «ما النصر إلا صبر ساعة واحدة» أو «كلما زادت التضحيات كلما اقتربت ساعة النصر» أو «إن الموت يهون في سبيل العزة والكرامة» والأسوأ «كلنا فداء حذاء القائد الملهم» أو «بالدم بالروح نفديك يا فلان»…
كلّها تعابير ألفناها في عالمنا وخسرنا على طريقها أحبابا وأصحابا وفلذات أكباد، وما زال بعضنا، رغم كل ذلك، يجد المسوغات العجيبة للاستمرار في الدفاع عن مسار ملؤه الإجرام وتجاوز كل القواعد الأخلاقية التي جعلت من المجتمع إمكانية، بدل أن يبقى البشر مجموعات من الذئاب، على رأي الفيلسوف «توماس هوبس».
بعض الناس ممّن تولوا المسؤولية عن الناس، قد يقعون في فخ التجاوز، لكنهم عندما ينعرهم ضميرهم يحجمون عن التمادي في غيهم خوفاً على حياة الناس من أن تضيع سدى، أو لرأفتهم بالبشر من الوقوع في الحزن والجوع والخوف. هؤلاء الذين تخطوا بإنسانيتهم المرحلة الذئبية وقرروا العيش في مجتمع آمن له قواعده الأخلاقية الإنسانية. هم من يزنون بين الخيارات المتاحة وبين الخسائر الممكنة ويحسبون حساباً للضحايا المحتملين، فيتراجعوا عن الإقدام، حتى وإن لاحت بوادر النصر في الأفق، لمجرد أن الأثمان كثيرة. هؤلاء أيضاً من لا يرغبون بالقول لاحقا «لو كنت أعلم»، بل يقدرون الأمور قبل أن يقدموا! هم من قد ينعتهم البعض بالضعف والجبن وسوء القيادة لأنهم جنحوا للسلم لحقن الدماء، ولو على حساب الرغبة بالنصر!
كلامي هنا ليس في الفراغ، ولا يهدف لهجاء البعض ولا لمديح آخرين، فالتاريخ أعمى لا يبحث عن إنصاف أحد ولا إلى محاسبة آخر، لكن المؤكد هو أن جنون العظمة والرغبة بالتجاوز الدائم هو ما صنع التاريخ المعروف، وفي كثير من الأحيان يتستّر العظماء بالأهداف النبيلة من أجل تسويغ الجنون الذي أسقط الملايين على طريقه، فيما خلّدهم التاريخ وخلد أسماءهم، سلباً أم إيجاباً، فاستحقوا تبجيل البعض ولعنات آخرين!
لا أحد يعرف اليوم ما كانت حقيقة تلك الرغبة المجنونة لجنكيز خان وسلالته في غزو العالم المعروف، ولا يمكن أن أفهم سبب إصرار تيمورلنك في تكديس جماجم ضحاياه التي يقدرها البعض بأكثر من عشرة ملايين، وبالتأكيد لِم يحاول هو تسويغ هذه الأفعال، ولكنه قد يكون الأصدق بين آخرين لأنه فقط كان يعبّر عن ذاته التي تخطت حتى الحالة الذئبية بدرجات. لكن آخرين كانت لهم «أهداف نبيلة»، كتوحيد العالم كما حلم اسكندر المقدوني تحت راية الهلينية وأدبياتها، أو نشر العدالة ما فوق الأرضية وحاكمية الله، كما افترضت المجموعات التكفيرية، أو العصر المسياني الذي صنع وعد بلفور وأسس إسرائيل، أو تعميم مبادئ الثورة الفرنسية كما فعل نابوليون، أو نشر الديموقراطية وتعزيز الحرية، كما تفعل وفعلت الولايات المتحدة الأميركية، أو تنقية العالم من الأجناس الخبيثة كما ظن هتلر… وكلهم كانوا يكدسون التضحيات والنذور وحرق حيوات البشر كالبخور على طريق جنون العظمة.
لماذا هذا الكلام؟ لأنه في الواقع ما تزال تؤسفني تلك التعليقات الصادقة من أناس صادقين في التزامهم ومؤمنين بالفعل بحسن مقاصدهم ويعتبرون أنهم هم وأخوتهم وأحبابهم حلال استخدامهم كضحايا موعودين بالشهادة أو بالنصر! لكن ما يؤسفني أكثر هو استسهال هؤلاء تجاوز كل المبادئ التي افترضوا أنها من أهدافهم على طريق «النصر»، في حين ينكرون على من يخالفهم الرأي حق المساءلة وطرح الخيارات البديلة ووضع ما هو معصوم افتراضياً في دائرة السؤال، فالسؤال هو تقوى الفكر المتنور المتحرّر من سطوة مجانين العظمة.
في لبنان أطلّ اثنان بعد العيد من هؤلاء المهووسين بالذات وبطعم الانتصار ليزيدا في آلام الناس آلاماً مع وعود مشرقات بالمزيد من التضحيات من أجل أن يستمر القائد ليتربّع على عرش القيادة بدل أن يتقي ويفرج عن أسره لحياتهم وأرزاقهم، فهل يتّعظ التابعون؟