لو أن القوى السياسية الأساسية اتفقت على أي لبنان تريد منذ نيله الاستقلال لما كانت تواجه اليوم ما تواجهه من أزمات، ولا كان لأي خارج أن يتدخل في شؤونه الداخلية، ما جعل كل قوة من هذه القوى تستقوي بخارج على شريكها في الوطن الواحد، ولما ظل لبنان الواحد معرضاً كل مرة لأن يصبح لبنانين وأكثر.
لقد صار اتفاق عام 1943 على ما سمي “ميثاق 43″، وكان موقف طرف منه سلبياً عبّر عنه الصحافي الكبير جورج نقاش في مقال له تحت عنوان: “سلبيتان لا تصنعان أمة”. ولم تتفق كل القوى السياسية الأساسية في لبنان على “اتفاق الطائف” الذي صار دستوراً جديداً له، لا لأنه قلّص صلاحيات رئيس الجمهورية وأعاد النظر في توزيع الصلاحيات على السلطات الثلاث، إنما لأن تنفيذه كان انتقائياً واستنسابياً، ولم يتم تنفيذه تنفيذاً دقيقاً كاملاً كي يصار في ما بعد الى تصحيح ما يجب تصحيحه وسد ما يظهر فيه من ثغر من خلال الممارسة. والوصاية السورية على لبنان التي تولت تنفيذ هذا الاتفاق لم يكن لها مصلحة في ذلك خصوصاً في ما يتعلق بإقامة دولة قوية قادرة على حفظ الأمن والاستقرار بقواتها الذاتية لئلا يستغني قيامها عن هذه الوصاية… لذلك لم يتم الغاء الطائفية السياسية، ولا انتخب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي كي يصير في الإمكان إنشاء مجلس للشيوخ يحمي حقوق الطوائف، ولا طبّقت اللامركزية الإدارية كي يضع تطبيقها حداً للصراع السياسي والمذهبي على السلطة، ولا تم تنفيذ ما اتفق عليه في جلسات هيئة الحوار الوطني لأن سوريا النافذة في لبنان عرقلت ذلك. وأهم ما صدر عن هيئة الحوار وبالإجماع كان “إعلان بعبدا”، فلو أن كل الأقطاب الذين وافقوا عليه التزموه لما كان لبنان يواجه اليوم خلافات وانقسامات حول سياسته الخارجية، ولما كان يواجه الإحراج في جامعة الدول العربية وفي منظمة الأمم المتحدة والمؤتمر الإسلامي، ويرتبك في اتخاذ موقف لا يزعزع الوحدة الوطنية التي يبقى الحرص عليها أهم من كل موقف. ولم تنفع “أوراق التفاهم” الثنائية بين أحزاب في تحقيق المصالحات الوطنية، بل محاولة تحقيق مصالحات شخصية تطوي صفحة الخلافات والانقسامات، مثل “ورقة التفاهم” بين “حزب الله” و”التيار الوطني الحر”، وورقة “إعلان النيات” بين “القوات اللبنانية” و”التيار الوطني الحر”، وهي ورقة لو أنها كانت تصلح لتحقيق مصالحة وطنية حقيقية شاملة لكان يجب عرضها على كل القوى السياسية الأساسية في البلاد لتقول رأيها فيها، ولما كان رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميل في حاجة الى طرح أسئلة على كل مرشح للرئاسة كي يحدد موقف الحزب في ضوء الأجوبة عنها، ولم يجب أي مرشح للرئاسة حتى الآن عن هذه الأسئلة، ولم يتأكد الجميع من ان العماد ميشال عون هو قلباً وقالباً مع ورقة “إعلان النيات” وليس بمجرد تلاوتها عليه، ومعروف عنه أن له مواقف معلنة تناقض بعض ما جاء فيها، ولا سيما ما يتعلق بسلاح “حزب الله” وحصره بالدولة، وما يتعلق بقرارات مهمة اتخذها هذا الحزب من دون أن يعود بها الى مجلس الوزراء.
الواقع أن المصالحة الوطنية الحقيقية الشاملة لا تقوم على أساس أوراق تجمع حزبين، أو أكثر، لكي يتحولا من خصمين الى حليفين، إنما على أساس وثيقة توقعها كل القوى السياسية الأساسية في البلاد وتتعهد تنفيذها تنفيذاً دقيقاً كاملاً من خلال كل السلطات في الدولة.
لذلك فإن هذه القوى إذا كانت جدية وجادة في تحقيق مصالحة وطنية حقيقية شاملة، فما عليها سوى الدعوة الى عقد مؤتمر موسع يجيب فيه المدعوون إليه بوضوح وصراحة عن سؤال واحد هو: أي لبنان يريدون؟ لبنان الانحياز أم لبنان الحياد؟ لبنان الدولة المدنية التي يحتل المناصب فيها كل صاحب كفاية الى أي حزب أو مذهب انتمى، أم دولة طوائف تتصارع على السلطات وعلى الوظائف والمكاسب بحيث يصبح لكل طائفة دولة لها نظامها وحتى جسمها؟ أيريدون دولة بنظام ديموقراطي أكثري أم توافقي، أم دولة اتحاد فيديرالي؟
إن كل القوى السياسية الأساسية في البلاد عندما تتفق على أي لبنان تريد يسهل عندئذ اختيار الرجل المناسب للمكان المناسب فيها، ولا يعود لدى كل مكون من مكونات الوطن مخاوف وهواجس يحتاج الى من يبددها، بل يصبح الدين لله والوطن للجميع، وإلا ستظل الطوائف في صراع دائم على السلطة، وكل طائفة تريد أن تكون لها القيادة والامتيازات لأنها الأقوى أو الأكبر حتى من الوطن… فلبنان القوي لا يبنى إلا على ايجابيات تقيم الدولة القوية القادرة والعادلة فيه، وليس على سلبيات تفرّق ولا تجمع.