آليت على نفسي من موقع الحرص الشديد كأي مواطن عربي على جامعة دولنا العربية أن استكمل ما كتبته بمقالتي الأولى بعنوان: «جامعة الدول العربية ما لها وما عليها» على ضوء الأهداف والأعمال الكبيرة التي من أجلها تأسست منذ 77 عاما، والتوجه المتواضع بالأمل والرجاء إلى القيادات الفكرية، والثقافية، والسياسية، وقيادات النضال الحزبي والشعبي العربي أن ينصب الاهتمام من جديد على هذه المؤسسة الرسمية أولى وكبرى مؤسسات النظام العربي، بغاية تفعيلها واقتراح كل عوامل تقويتها وإستعادة دورها المفقود حاليا ومكانتها بين قضايا الأمة وأوطانها وشعوبها التي رافقت انشاءها ولتكون قادرة على مواجهة التحدّيات الخطيرة عربيا وإقليميا ودوليا وتلك التي تعصف بأوطاننا العربية وما تتعرّض له القضية الفلسطينية والشعب العربي الفلسطيني داخل الأرض المحتلة من اعتداءات وعدوانية بربرية وحشية لم تعرف البشرية مثيلا لها في العصر الحديث وما تتعرّض له دول عربية من ضغوط قاسية وتهديد ودفعها للتطبيع الإجباري مع العدو الوجودي للأمة بعد أن اغتصب الأرض ونسبها زورا وبهتانا لكيانه المزعوم الذي حصل عليه وأقام كيانه السياسي العنصري بدعم مكشوف من الدول الاستعمارية الأوروبية والأميركية فيما بعد، ولا يتصور أحد من مواطني الأمة العربية ودولها أن لا تكون جامعة للعرب يحققون بها ومعها الأهداف التي تضمنها ميثاقها التأسيسي خاصة وأن فكرة وجود الجامعة هي في الأصل والأساس وليدة الرأي العام العربي الذي كان وما زال وسيبقى طالما أمته موجودة وقائمة توّاقا لتوحيدها من جديد وإعادة الأمر الطبيعي لها بعد أن مزقها الاستعمار ضد إرادتها وضد طبيعتها، وهذا الشعب العربي العظيم يدرك أنه بالوحدة يكون التقدم والانتصار وبالتجزئة يكون التخلف والانكسار.
وفي هذا المجال فاني أستعيد ما ورد في وثيقة الميثاق الذي قدّمه الزعيم الخالد بانجازاته وأفكاره جمال عبد الناصر للمؤتمر الوطني للقوى الشعبية المصرية بتاريخ 21 أيار 1962 في باب الوحدة العربية: (ان الشعوب تريد أملها كاملا والجامعة العربية بحكم كونها جامعة للحكومات لا تقدر أن تصل إلى أبعد من الممكن، أن الممكن خطوة في طريق المطلوب الشامل. أن تحقيق الجزء مساهمة في تقريب يوم الكل. لهذا فإن الجامعة العربية تستحق كل التأييد على أن لا يكون هناك تحت أي ظرف من الظروف وهم تحميلها أكثر من طاقتها العملية التي تحدها ظروف قيامها وطبيعته. أن الجامعة قادرة على تنسيق ألوان ضرورية من النشاط العربي في المرحلة الحاضرة، لكنها في نفس الوقت تحت أي ستار وفي مواجهة أي ادّعاء، لا يجب أن تتخذ وسيلة لتجميد الحاضر وضرب المستقبل به).
وهنا أقول بموضوعية لو قيّد الله لأمة العرب وقادتها تحقيق وإنجاز هذه الرؤية الصائبة والرأي السديد منذ إعلانه أي منذ ستين عاما لما كان حال جامعة الدول العربية ولا حالنا على ما هو عليه من البؤس والتشتت والضياع ولوفّرت الأمة الصراعات الدموية بين مواطني كل دولها ونظامها وما هو قائم مع دول المحيط الإقليمي والدولي لأن القوة تحمي وتردّ المعتدين وتحرر وتستعيد الحق والضعف ينتهك ويستبيح الأرض والحق والثروات ويجعل منك أفرادا أو جماعات أو دولا مذموما مدحورا.
أنني وفيما أعرضه لا أسقط من الاعتبار بأن جامعة دولنا العربية واجهت معوقات وحواجز عدة وكثيرة بعضها بفعل إرادات سياسية حكومية عربية لم تكن تملك الرؤية المطلوبة وطنيا وقوميا متذرعة بأسباب واهية تحت شعار الحفاظ على السيادة والاستقلال، وبعضها الآخر تحت مزاعم تذويب وتضييع الكيان الوطني وإدخاله في إطار وحدوي ينسف الأوطان وبعضها الآخر وهو الأخطر تحت املاءات وأوامر أجنبية.
وللأسف ما زالت قائمة سواء من إحدى دولنا أو من رأس النظام العربي وحاشيته وأنصاره أو من بعض أحزابه والجماعات المرهونة والتي بات ولاءها للخارج وتجاوزت الولاء الوطني والعربي وراحت تمثل صوت أسيادها ومصالحهم مستفيدة من الفراغ القيادي الواقع في المنطقة العربية بعموميتها سواء بالقيادة القادرة الراشدة أي الزعامة أو بالدولة المرجع التي تمثل الثقل والثقة أي المرجعية القاعدة أو بالمبادئ العظيمة التي استولدتها الأمة من تاريخها النضالي الجهادي الذي أختصها الله به بقوله: «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله».
ومن العوائق والحواجز أيضا، الواقع العربي المتغيّر داخل النظام العربي والتحديات الداخلية والخارجية والعجز عن مواجهتها أو حلّها ومنها أيضا ثنائية الدولة القطرية ودواعي السيادة والاستقلال كما أوضحنا والدولة القومية وضرورات التضامن والتوحد وجمع الشمل العربي وقواه البشرية والمادية وعوامل القوة التي تحمي الآمال والأهداف وعلى كل المستويات السياسية والدفاعية والغذائية والثروات وكل العناصر التي باتت ضرورة من ضرورات الحياة والبقاء، ومن العوائق والحواجز التي حالت دون تقدم الجامعة إلى الأمام، بعث مخططات استعمارية وتدخل دولي سافر وشنّ حروب ودمار واحداث انقلابات طائفية ومذهبية وعنصرية ودفع أقليات وتسليمها ودفعها التجاذب على الحكم والهيمنة على السلطة بأسباب كاذبة وشعارات الأمن والأمان والمساعدة وكلها سبيلا للسيطرة ومد النفوذ ومبررات كاذبة وخادعة وما حصل بالعراق وبدول عربية أخرى خير دليل ومنع لأي تضامن وتوحيد عربي. ومنها أيضا وأيضا حصول أزمة ثقة راحت تتوسّع وتكبر بين الجامعة وبين جماهير الرأي العام العربي ومنها أيضا معوقات وحواجز الوضع القانوني باعتماد قاعدة الإجماع بالتصويت على قراراتها لتصبح نافذه ومعمول بها وإسقاط مبدأ الأغلبية والأقلية بحيث تصبح الدولة العضو لا تلتزم إلا بما صوّتت عليه أو يتعارض مع أنظمتها الداخلية. وزيادة في تلك المعوقات والحواجز حرية الانضمام لعضوية الجامعة وحرية الانسحاب.
كل ذلك وغيره أضعف من الجامعة وجعلها أقرب إلى ديكور جمعي أو كمّي عددي عربي أو هيكل بلا روح، وبمسؤوليات الحد الأدنى من التعاون والتوافق والتلاقي وفقدان وجود أي خبرة أو سلطة لإلزام الاعضاء بقراراتها حتى لو كانت بحالات حرب.
ومنعا منا للإطالة نكرّر التوجّه لقادة الرأي العربي والمهتمين بقضايا الأمة أن تكون جامعتهم العربية الآن وليس غدا في أولى أولوياتهم بحثا عن تطويرها وبعث حركتها من جديد متجاوزين حالات الإحباط وكل ما يحكى عن الفشل الكبير والإنجاز القليل، فالجامعة هي قدر العرب وهي المؤسسة والأداة المقبولة والتي من خلالها يتم جمع الشمل العربي وإعادة التعاون والتعامل الأخوي ولا بديل الآن عن هذه الجامعة في ظل التحديات الدولية الخطيرة وما يرسم للمنطقة من خرائط سياسية للمنطقة العربية تحديدا الشرق الأوسط عموما وفق المعايير والمصالح الدولية وخاصة الأميركية المتقاطعة مع المصالح الإسرائيلية وشروعها في ذلك بفرض حالات التطبيع والاعتراف وعلاقات دبلوماسية وتجارية بل عقد اجتماعات داخل الكيان الإسرائيلي بوجود مسؤولين عرب وما جرى في ما أسموه قمة النقب وعشاء العمل ونشر عبر وسائل الإعلام يزيد من قناعاتنا بمخاطر ما يجري وأهواله وتداعياته، وعليه فلتتحرك القوى الحيّة في المنطقة الرسمية وغير الرسمية والجماهيرية، وما يجب أن نعلمه أن القادة العرب المؤسسون للجامعة موقعون على ميثاقها قبولا بالحد الأدنى الممكن واعدين بالسعي الدائم للتطوير باتجاه المزيد من التعاون والتنسيق والتوحد.
ان ضرورات الوجود العربي وبقاء الحياة للأمة تتطلب ورغم كل الظروف السابقة، انطلاقة جديدة للجامعة والتمسّك بالايجابيات والتخلّي عن السلبيات والإصرار على النجاح بمهماتها وأهدافها ولنا في نجاح مؤسسات ومنظمات اجنبية بين بلدان عدة وبين شعوب مختلفة، لغات، وهويات، وجنسيات متعددة جمعتهم وحدة المصالح والجغرافيا والأمن والدفاع كاتحاد الدول الأوروبية، والولايات المتحدة الأميركية أقوى الأسباب للتوحد والاتحاد وجمع الطاقات خاصة ونحن أبناء أمة عربية واحدة بلغة واحدة وتاريخ واحد، وشعب واحد ومصير واحد وما هو مطلوب وتحتاجه الأمة التالي:
– وجوب إرادة سياسية فاعلة وحاسمة لدى الدول العربية باتجاه التكامل وتحقيق عوامل التقدّم.
– حل التباين بين التوحد العربي وبين القطرية بتكامل الوطنيات وتفاعلها، فلم يعد بإمكان دولة واحدة مواجهة التحديات بأنواعها المتعددة التنموية والاقتصادية والاجتماعية والحياتية والدفاعية وحدها فالعالم اليوم في عصر التكتلات الكبيرة والتحالفات. فالدول العربية بمجموعها مساحة هي الثانية عالميا بعد روسيا وسكانيا الرابعة بعد الصين والهند والاتحاد الأوروبي.
– أن الجامعة العربية تضم العديد من المجالس والمنظمات والمنتديات التي أنشأتها، ومن الوثائق التي أصدرتها بما فيها المناهج التعليمية وتحتاج إلى إرادات لتفعيلها وإعادة إطلاقها حتى تؤتي أكلها.
– إعادة إحياء المبادرات والاقتراحات التي رافقت سير الجامعة بهدف التطوير والتوحيد ورد العدوان واسترداد الحقوق وتحرير القدس وفلسطين وهي وجهة الأمة المركزية وهي معادلة النصر أو الهزيمة والتقدّم أو التخلّف.
– وأخيرا إعادة بعث الاقتراح الذي تقدمت به مصر للجامعةعام ١٩٩٥ بعنوان ميثاق الأمن والتعاون العربي، ودعت فيه إلى إنشاء محكمة عدل عربية وتشكيل قوة عربية لحفظ السلام وبرلمان عربي مشترك.