تنعقد جامعة الدول العربية في 19 أيار المقبل في السعودية، وسط تطورات كبيرة بَدّلت في الصميم المشهد العربي خلال الاشهر القليلة الماضية. وتبقى أبرز هذه التطورات المصالحة السعودية ـ الايرانية وما سيترتّب حيالها من انعكاسات على الساحات اليمنية والسورية والعراقية واللبنانية، والتي شكّلت خلال المراحل الماضية ساحات مواجهة بين ايران والسعودية.
تكفي الاشارة الى الزيارة الثانية لوزير الخارجية الايرانية حسين امير عبد اللهيان لبيروت منذ بداية السنة الحالية، والتي تهدف في جوهرها الى وضع قيادة “حزب الله” في خلفيات الاتفاق مع السعودية والصورة الجاري رَسمها للمرحلة المقبلة.
صحيح انّ اجتماعات جامعة الدول العربية تاريخياً لم تشكّل محطات حاسمة او مؤثرة في مسار الاحداث، لكنّ التبدلات الهائلة الحاصلة داخل العالم العربي وعند تخومه تجعل من رصد المداولات التي ستدور في أروقة القمة مناسبة لقراءة وتظهير المواقف بنحوٍ أفضَل وأوضح. فإضافةً الى الحرب المُشتعلة في اوكرانيا والتي تلفح الشرق الاوسط، هنالك البركان الذي انفجر لتوّه في السودان حيث البوابة الشرقية للقارة الافريقية. وما بين الاستعداد للهجوم المعاكس في اوكرانيا والاندفاع في الترتيب لحرب طويلة في السودان يقبع الشرق الاوسط بين كماشة من النار في اوكرانيا شمالاً والسودان جنوباً. واذا كانت المرحلة الاولى من حرب اوكرانيا قد سمحت لدول الشرق الاوسط في البدء بالتأقلم مع البركان الاوروبي، فإن برميل البارود الذي اشتعل فجأة في السودان يهدد بلهيبه البلدان القريبة. وجاء ترحيل الرعايا الاجانب عن السودان بمثابة الاشارة الواضحة الى دخول السودان في حرب طويلة ستستثمر فيها القوى الدولية وعينها على افريقيا وخصوصاً مصر وليبيا، ومع عدم إغفال قرب السودان من الخليج العربي.
وثمة حديث عن نجاح موسكو في تحقيق اختراق في السودان من خلال استغلال النزاع الحاصل على السلطة بين “جنرالين”، وذلك من خلال العلاقة القائمة بين “فاغنر” وقوات “الدعم السريع” خصوصاً انّ موسكو كانت قد نجحت في التغلغل في دول افريقية عدة بالتنسيق مع الصين، كما هدفت لإقامة قاعدة عسكرية بحرية عند الشاطئ السوداني. في الوقت الذي كانت واشنطن منشغلة في التحديات الدولية على مستوى اوكرانيا وتايوان وايران. ولا شك في أنّ الحرب المندلعة في السودان، والتي ستؤدي عاجلاً ام آجلاً الى فتح جروح بالجملة في افريقيا بدءاً من ليبيا، ستُجبر واشنطن على إيلائها اهتماماً اكبر وسط تراجع النفوذ الفرنسي الى حد كبير.
وتكفي الاشارة مثلاً الى الاصوات التي بدأت ترتفع في واشنطن لإجراء تبديلات جذرية في الاستراتيجية الاميركية المتّبعة، كمِثل دعوة رئيس مجلس العلاقات الخارجية ريتشارد هاس الذي طالبَ بالبحث عن مخرج ديبلوماسي للحرب في اوكرانيا للتفرّغ لساحات اخرى. فيما طالبت اصوات اخرى بإبداء ليونة في التعامل مع الصين في مقابل تنظيم المواجهة مع روسيا في افريقيا.
كل هذا المناخ “الحربي” سيُظلّل القاعة التي ستجمع الزعماء العرب في القمة العربية في السعودية، الى جانب نتائج المصالحة السعودية ـ الايرانية. لكنّ الطريق ليست وردية كما تُظهر البيانات والمواقف الرسمية. وهذا مثلاً ما أدّى الى “التبطيء” في عودة سوريا الى الجامعة العربية على رغم من مصالحاتها مع الدول العربية وأبرزها على الاطلاق مع السعودية. فهنالك النفوذ الايراني ومصيره خصوصاً على الساحتين السورية واللبنانية. تكفي الاشارة هنا ايضاً الى “رسائل الصواريخ” التي انطلقت من لبنان وسوريا وغزة بالتزامن مع أحداث القدس والضفة الغربية. كان واضحاً انّ هذه الرسائل هَدفت الى إظهار وحدة المسار والجبهات في وجه اسرائيل في ردّ على استهداف مسؤولين كباراً في الحرس الثوري الايراني على الاراضي السورية. وهي رسالة يمكن ان تحمل أبعاداً اضافية الى الذين يدعون الى تحجيم النفوذ الايراني على هذه الساحات.
وفي وقتٍ باشَرت اسرائيل استخدام سلاح الاغتيالات، فهي تعمل ايضاً على الالتفاف على ايران من خلال دول آسيا الوسطى، حيث تمركزت في تركمنستان بعد اذربيجان أي “تطويق مقابل تطويق”.
وسط هذه التعقيدات سَعى الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون للتعويض عن خسائر فرنسا الخارجية بنَسج معادلة لبنانية تحفظ لباريس موقعها في الشرق الاوسط من خلال لبنان والانطلاق بسياسة دولية مستقلة باسم اوروبا، وهي خطة سياسية تغلب عليها البراءة وتفتقد الواقعية.
فالرئيس الفرنسي وجدَ نفسه في بداية ولايته الثانية أنه اكثر تحرراً على المستوى الداخلي كونها ولايته الرئاسية الاخيرة، لكنّ خسارته الغالبية النيابية لم تجعله يتنبّه الى سياسة داخلية اكثر مرونة فاصطدم بمعارضة شعبية شرسة لقانون رفع سن التقاعد بعد ان تلكأ في التسويق له جيداً، وهو اعترف بخطأه ولكن متأخراً. ماكرون كان يركّز على وجوب تحقيق انتصار خارجي يحفظ له بصمته على السجل الرئاسي الفرنسي، وهو حُلم رَاوَده منذ ولايته الاولى. وهو رأى في بداية ولايته الثانية انّ الظروف باتت ملائمة. ففي المانيا قيادة لم تنجح في إثبات نفسها بعد رحيل ميركل، وفي ايطاليا حكومة يمينية متطرفة مرفوضة اوروبياً وكذلك عدم نجاح اي بلد اوروبي في ملء فراغ خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي. وفي اختصار وجد الساحة الاوروبية خالية والطريق مفتوح امام إمساكه بقيادتها، فاندفعَ في هذا الاتجاه.
لكنّ مشكلاته الداخلية الحادة وعدم تمرّسه في تعقيدات المشكلات الخارجية، أدّيا الى نكسات واخفاقات متتالية. ففي العام 2019 سعى ماكرون الى إنشاء علاقة متينة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عبر اعادة ضَم موسكو الى مجموعة الدول السبع، ودعاه الى مقر إقامته الصيفي.
وفي 2022 أعلن انه حصل من بوتين على تعهدات بعدم مهاجمة اوكرانيا بعد زيارة رسمية له الى موسكو. ولكن وبعد فترة وجيزة حصل العكس تماماً.
وبعد زيارته لبيروت لمرتين متتاليتين بعد انفجار 4 آب عام 2020 فشل ماكرون مرتين متتاليتين في الدفع باتجاه تكوين سلطة خارج نطاق الطبقة السياسية. وأخيراً وبعد زيارته الصين لم ينجح في دَفع بكين الى موقع وسطي في حرب اوكرنيا على رغم من الوعود التي سمعها. فبعد ايام من انتهاء اعمال القمة الصينية ـ الفرنسية زار وزير الدفاع الصيني موسكو بهدف رفع مستوى التعاون العسكري.
وكان ماكرون، وفور عودته من الصين، قد طلبَ من معاونيه البدء بالتحضير لمشروع فرنسي ـ صيني مشترك للتحضير لمفاوضات سلام بين روسيا واوكرانيا وفق ما اتفق عليه مع نظيره الصيني، لكن فجأة ومن دون مقدمات خرجَ السفير الصيني في باريس بتصريح أكد فيه سيادة روسيا على شبه جزيرة القرم. وهو ما يعني عملياً نسف فكرة المفاوضات من أساسها.
وفي لبنان حاولَ ماكرون نسج معادلة جديدة تقوم على تعاون فرنسي مع “حزب الله” ركيزته الساحة اللبنانية ويطاول الاسواق الايرانية لاحقاً وايضاً السورية. لكن الحسابات لم تكن مشبعة بدرس التعقيدات السياسية اللبنانية الداخلية والاقليمية ـ المتوسطية.
فمثلاً على سبيل المثال، كيف سيُوائم ماكرون بين حضوره الضعيف على الشاطئ اللبناني واحتمال اشتعال ليبيا مجدداً والحضور العسكري الروسي القوي في سوريا؟ فيما الدول الاوروبية منخرطة في أتون حرب اوكرانيا، ومع عدم إغفال النيات الاسرائيلية. وتكفي الاشارة الى الرسالتين السلبيتين اللتين وجّهتهما واشنطن لحركة الرئيس الفرنسي في لبنان. الاولى عبر العقوبات على الاخوين رحمة، والثانية جاءت أوضح مع كلام مساعده وزير الخارجية الاميركية بريارة ليف. وبالتالي، فإن التعويل على مواقف مساعدة ومسهلة للمبادرة الفرنسية الرئاسية في لبنان لا يبدو واقعياً، وهو ما سيظهر بين سطور المقطع المتعلق بلبنان في البيان الختامي لجامعة الدول العربية.
وتكفي الاشارة الى انّ التحرك الاميركي على مستوى الشرق الاوسط ومن ضمنه لبنان لم يعد فقط ديبلوماسياً وعلى مستوى وزارة الخارجية، بل عسكري ـ أمني وعلى مستوى وزارة الدفاع. وفي هذه الحالة تصبح الطروحات السياسية “البسيطة” آيلة للاحتراق.