Site icon IMLebanon

.. يرشح سماً

يمكننا أن نتفهّم بسهولة خوف الأطفال من الظلام لكن المأساة تتجلّى بخوف الراشدين من الضوء« (أفلاطون)

يأتي تعبير «دوغما»، ويعني «اليقينية» في اللغة العربية، من اللغة اليونانية ليصف حالة الجمود العقائدي التي قد تضرب فرداً أو جماعة فتدفعهم إلى تأييد أعمى لفكرة عقائدية أو أخلاقية أو مذهبية من دون إمعان في مضامينها. وتستدعي اليقينية التصلب والتزمت وفرض الرأي بالإكراه، في حال الفشل في الإقناع، على أساس أن الفرد أو الجماعة الواقعين تحت سحر فكرة ما يقينية يعتبرون أنهم يملكون وحدهم الحقيقة المطلقة، مما يحلل لهم احتقار الآخرين والإستكبار عليهم واستباحة حقوقهم، وحتى السعي لإفنائهم.

في المجال الديني تأتي كلمة الدوغما عندما تلصق صفة العصمة ببعض الرموز البشرية الدينية مضافاً إليها بعض الصفات الخارقة، حتى ومن دون أي قرينة. 

أما في الإجتماع والسياسة، فهي تستعمل لوصف المناهج والأساليب الفكرية المتحجرة غير القابلة للنقاش، والتي تنطلق أصلاً من يقينية ما غير خاضعة للتدقيق. وقد يستعمل بعض «مثقفي» الفكرة اليقينية، وهم عادة من المتكلمين المفوهين، التسلسل المنطقي لإثبات يقينية فكرتهم، وقد ينجحون في كثير من الأحيان في إقناع البعض، مع أن إنطلاقة النقاش تستند عادة إلى يقينية فرضية أخرى، تستند هي اصلاً إلى أسطورة أو عادة أو موروثات إجتماعية غامضة المصدر، ولكنها تشكل مع ذلك الحقيقة المطلقة لمجموعة من الناس. 

وقد يساهم الإرهاب الإجتماعي في انتشار الفكرة اليقينية وثباته، خاصة في فترات الأخطار أو الحصار أو الحروب أو الأوبئة أو غيرها، حيث تحتاج الجماعة إلى فكرة تجمعها لتتكاتف، ويصبح المشكك فيه عرضة للعزل أو التكفير أو التخوين مما يعني الهلاك بشكل أو بآخر. 

ومن هنا فإن قلّة قليلة قد تجاهر بالتشكيك بالفكرة، فتتحمل العواقب، بينما جزء صغير آخر لا يقتنع ولكنه يخاف من عواقب المجاهرة فيسكت، وجزء لا يقتنع بيقينية الفكرة ولكنه يدافع عنها لأنها «تجمع الأمة»، وقد يكون هؤلاء أكثر الناس شراسة وعنفا سعيا لتغطية شكهم، أما الأكثرية فإنها تصبح أسيرة اليقينية لدرجة القناعة بالتضحية بكل شيء من أجلها، ومن ضمنها المال والبنون والذات. 

ومن هنا ينبع التكفير والتخوين والعنصرية والعزل والتطهير العرقي والديني والسياسي، والتهجير… 

الجانب المضيء في الفكرة اليقينية هو أنها تدفع إلى تراكم الفكر الناقد لتسقط في النهاية بشكل أو بآخر، لكن الجانب المظلم هو أن عهد الفكرة قد يطول، وقد تؤدي خلال حلول مصيبتها إلى الموت والدمار، والعذابات المجانية. 

اليقينية رغم ذلك فكرة جذابة للأكثرية الساحقة من البشر لأنها تنقذهم من أوجاع التفكير المضنية ومن متاهات التشكيك التي تصل دائماً إلى حائط مسدود. 

محمد رعد الذي وصفه البعض بـ»الحائط«، يستند بقناعاته إلى يقينية مطلقة بأنه على حق، وبأن قناعاته هي صحيحة بالمطلق، على الرغم من أن فكرة حزبه تستند أصلاً إلى اجتهاد في نصوص غير واضحة المعنى، ومع العلم أن الإجتهاد وضعه بشر قد يخطئون، وأن المتابعة المنطقية لتلك الإجتهادات اعترتها شوائب لا حصر لها، ومع ذلك فقد قفز هو وملايين آخرين إلى يقينية دفعتهم إلى احتقار الآخرين والإستكبار عليهم، واستسهال أحكام التهجير والقتل والتدمير على أساس افتراض أن محمد رعد ورفاقه يملكون الحقيقة المطلقة.

من هنا فإن قرار منع زعيم من العودة إلى بيته أو تهجيره، يصبح نوعاً من الواجب عند محمد رعد، كما أن رفاقه المتهمين بجرائم الإغتيال والتخريب يصبحون بمثابة القديسين المدافعين عن اليقينية المقدسة حتى لو كانوا بمعايير العدالة مجرمين.

أنا لا أظن أن محمد رعد إنسان مجرد من الشعور، فهو لطيف في سلامه وابتسامته توحي بالطيبة، وأظن أنه يتعاطف مع الناس، وقد يكون يقدر الجماليات، لكن ذلك لا يمنعه من أن يرشح سماً عندما تتعرض يقينيته للتشكيك أو الخطر، فهي مصدر وجوده.

لست أحاول استهداف محمد رعد لمجرد أنه لمح إلى سعد الحريري بعبارات تشبه السم في حقدها، لكنني أتطلع إلى اليوم الذي يتمكن فيه المتنورون الكثر الواقعون تحت إرهاب يقينية محمد رعد أن يعلنوا ثورتهم لوقف النزيف وإنقاذ ما يمكن من بشر وحجر، والأهم لإنقاذ عقول الشباب.