Site icon IMLebanon

الراحل أوباما.. وإنجازاته التراجعية

الرئيس أوباما، في ظاهر تصرفاته، يبدو وكأنه حريص على إنهاء ولايتيه، بإنجاز مكوّن من أحداث ضخمة يُنهي من خلالها حياته الرئاسية، وقد حدّدها في أكثر من مناسبة وأكثر من ممارسة سياسية وتصرف عملاني: بإنجاز الإتفاق النووي مع إيران، وبتجنب مزيد الغوص في الأزمة السورية. ها هو الآن يشدّ الرحال ويلملم ملفّاته ويلحقها بمزاعم إنجازاته وانتصاراته، وهو في الواقع العملي، وعلى ضوء خمس سنوات من التهرب من الإنغماس في الوضع السوري والإستقتال لتوقيع الإتفاق النووي مع إيران، لم يحقق إلا تراجعات خاسرة ومحرجة للولايات المتحدة، الأمر الذي يلقى منذ الآن أثره وصداه السلبي لدى كثير من المراجع السياسية والبرلمانية والأمنية الأميركية.

سورياً، وبعد أن عمد النظام إلى استعمال السلاح الكيماوي ضدّ شعبه، وبعد أن عمد أوباما إلى توجيه تهديد لذلك النظام بضربة تأديبية مؤثرة، وجد لنفسه العذر السهل، فهرب من خلال تفاهم فاضح مع الرئيس بوتين باتجاه تسليم كل ما يملكه النظام السوري من مخزون كيماوي، فتم تسليم ما زعم أنه «كلّ» هذا السلاح، وكفى الله الأميركان، شرّ القتال، وكان أن امتدت الأزمة السورية بعد ذلك بتدرج تصعيدي مأساوي، وهي لم تنتهِ حتى الآن.

الذي حصل لاحقا، أن روسيا قد أخرجت الولايات المتحدة من الساحة السورية، وأمسكت بمقاليد الأمور، وأنقذت نظام الأسد من السقوط وحوّلت الموقف الأميركي الرافض لاستمرار هذا النظام إلى مجرّد كلام وتمثيليات شبه هزلية، بينما تحولت بقدّها وقديدها إلى بلد محتل وممسك بالوضع السوري تماما، وإلى منقذ للنظام وإلى مشاركته الفاعلة والمؤثرة في ضرب الشعب السوري بشتى أنواع الأسلحة، بما فيها تلك المحرمة دولياً وبينها الأسلحة الكيماوية والتي أثبتت مراجع الأمم المتحدة أن النظام عاود استعمالها وإطلاقها في مجمل الأرض السورية، إضافة إلى دور سلاح الجو الروسي المساند والمشارك بأقصى ما لديه من عنف وهمجية.

وهكذا، يثبت أن حجم التآمر الروسي- الأميركي مستندا إلى تفاهمات تحت الطاولات وفوقها، وأنه يستهدف، ضرب البنية السورية وتركيبتها الديمغرافية، تقطيع أوصالها، وتقسيمها بما ينتج على الأقل دولتين خارج إطار وحدة الدولة السورية، أولهما متمثلة بنظام الأسد وحواشيه، تحتوي في أرجائها على كل القواعد والمصالح الروسية وتحمي الأطماع الإستراتيجية الروسية في سوريا وفي المنطقة، وتراعي المخططات والمطامح الإيرانية ذات الجذور الفارسية والإستهدافات المذهبية التي تسعى إيران إلى تعزيز مداها ضمن البلاد العربية وصولاً إلى شواطىء المتوسط، وثانيهما متمثل بمشروع الدولة الكردية التي يستقتل أوباما، لإنشائها، الأمر الذي عكّر صفو العلاقات التركية الأميركية، وأدى إلى مجابهة عسكرية ما بين تركيا وأخصامها من الأكراد الذين باتوا يهددون وجودها ووحدتها، مما يفسر مدى وحجم المجابهة التركية ضد التوجه الأميركي الممالىء للأكراد.

أما «الحدث الكبير» الذي يعتبره أوباما إنجازا معنويا هو الأهم والأضخم الذي حققه خلال ولايتيه وهو ما زال لم يشبع من تلمظ نتائجه، فيتمثل بتوقيع الإتفاق النووي مع إيران، وها هي نتائجه المضطربة تؤكد أن إصرار أوباما على عقد ذلك الإتفاق لم يكن أكثر من صفقة عشوائية هيأ لها بكل إصرار، وأسرع في الترويج لحسناتها ومكاسب الولايات المتحدة من نتائجها المنتظرة، وقد كان هدفه المعلن من كل تلك العجلة، ما زعمه حول درء الخطر النووي الإيراني ونزع فتائل التوتر والإقتحامات الإيرانية في المنطقة العربية، وها هي الأيام تمر ولا شيء يذكر قد تحقق من ذلك التوافق الذي تجاوز في الواقع مصالح حلفاء الولايات المتحدة بصورة فجة وغير مبالية ولا مسؤولة، ولم يؤمن للولايات المتحدة إلاّ فتاتا من المصالح شبه الوهمية، وكان هذا المنحى من هجمة أوباما نحو تعظيم إنجازاته مدار تحفظ وانتقاد ضمن دوائر المجتمعات الأميركية، كما كان مدخلا نحو انكفاء الولايات المتحدة عن لعب دورها في ريادة العالم، وانعكس ذلك  وسينعكس لاحقا أكثر فأكثر، على المصالح الأميركية المنتشرة في أنحاء واسعة من العالم، وإذا كانت الولايات المتحدة طامحة إلى استبدال مناطق نفوذها الحالية بمناطق أخرى من العالم المتحفز والمتوثب إلى احتلال مكانة جديدة طائلة وقادرة في الخريطة الدولية، فإنها من منطلق سياستها الإنكفائية والتراجعية، ومن منطلق تلزيم حل المشاكل المستعصية إلى قوى أخرى كما فعلت بتلزيم المعضلة السورية، إلى روسيا، ستجد نفسها في وقت غير بعيد، عاجزة عن مناطحة القوى الصاعدة الجديدة وفي مقدمتها الصين ومواكبيها في «الطحشة» الإقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، حيثما أمكنها من مناطق العالم.

ويا أيها الراحل إلى خارج الحكم… بتنا نبحث عن «إنجازاتك العظيمة» طويلا… فلا نجد منها إلاّ الخراب والدمار والمآسي الخلقية وستبقى سوريا الهاجس المقلق الذي سيلاحق ما تبقى من ضميرك الإنساني حتى آخر أيام حياتك، ويبدو أن المحاسبة ما بينك وبين شعب الولايات المتحدة قد بدأت منذ الآن، أما المحاسبة ما بينك وبين شعوب هذه المنطقة، فلا بد أن تبدأ في أقرب ظرف ممكن.