ستة عقود ونيّف من عدم استقرار وانتظام مواطنيّتي المضطربة والمخترقة بالمناطقية والمذهبية والأيديولوجيات والقوميات والنكبات والنكسات والثورات والنزاعات والحروب والاحتلالات والوصايات والاغتيالات والانتفاضات والاستقواءات، التي دمرت الارادة والشغف الوطني لدى أجيال وأجيال كانوا يحلمون في استكمال بناء مواطنيتهم بعيدا عن الحروب والنزاعات في لبنان الفرادة والتألّق والفنون والثقافة والإعلام والكتاب والتنوع والانفتاح والتماهي مع تجارب الحداثة والتنوير، وبناء دولة حديثة تحقق العدالة والمساواة وتصون الحريّات والحق في التعبير عن الذات والخيارات.
حملنا إلى المدينة أجمل ما في الأرياف من صدق ونقاء وطموحات وإيمان على قاعدة من يزرع الشوك يجني الجراح، أيام كانت الأرياف تهدي المدينة نخبة ما لديها من عقول وقلوب وأيادي كما يقدم الفلاّح أفضل الثمار لأحب الزوار، وعرفنا في بيروت أسماء وقامات وزعامات ومبدعون ومبدعات ورواد في كل مجال ومسارح ومهرجانات وصحف وإذاعات وتلفزيونات وتظاهرات، يوم كانت بيروت كثيفة الأضواء ومشرعة الأبواب للوافدين الطامحين بكلّ حبّ وعطاء وكان الانسياب سلساً بين المناطق والمدن والطبقات، وكانت بيروت عاصمة التجربة الوطنية المجتمعية الرفيعة قبل أن يقتلوا الحب فيها وتُحرق الأماكن وكلّ أسباب الحياة ويرتكبوا ما هو أبشع من أن نتذكره وأبشع من أن ننساه يوم هز عنفهم ثقتنا في أنفسنا وفيما بيننا، ودمروا صروح العلم والتجدد والابتكار والإبداع.
عرفت الكثيرين من الذين قَتلوا والذين قُتلوا والذين كذبوا وبعض من صدقوا، بعد أن تعاظمت قدسية السلاح على كل المقدسات في حروبهم العدمية لغايات كامنة في النفوس بعيدا عن النصوص، يوم سلبوا منا في نزاعاتهم أعمارنا وأحلامنا وأسواقنا وحقولنا وتركونا نلهث في البحث عن جليس نطمئن له ولا نخشاه، وأن نستوحش حنينا إلى حبيب لم نعد نلقاه، وجعلوا من أخلاقنا ومشاعرنا عاهات دائمة ومحل خجل وحياء، وتقاسموا المغانم والمناصب وكتبوا عن أنفسهم ما ليس فيهم وأقنعوا أنفسَهم بأنفسِهم وخدعونا حين أوهمونا بتوبتهم وأنّهم يريدون العيش معاً بسلام في دولة المواطنة والحقوق والواجبات، فصدقناهم وخسرنا ما تبقى لدينا من نقاء باقترابنا من فظائعهم واكتشفنا أنّهم لا يسمعون سوى أصوات تسلطهم وفسادهم ولا يشاهدون إلاّ صورهم، وعرفنا معهم كيف يكون الصدق بالهمس والكذب بالعلن وعلى رؤوس الإشهاد في الخطابات والتصريحات والعبث بمشاعر العوام البسطاء.
لسنا أبرياء لأننا أيضاً احترفنا الهمس والكذب وسكتنا عن ارتكاباتهم بحق الوطن والمواطن والكيان، وضللنا الطريق بعد أن فقدنا القدرة على الإدراك والتمييز بين الخطأ والصواب، وشاهدنا الظلم وعلّلناه وتجرّأنا على تجهيل الضعفاء، وسكتنا عن الحق وكنّا شياطين خرساء، وخضعنا لإرادة الآخرين على أرضنا من أجهزة المخابرات والسفارات والمنظمات والجيوش والميليشيات، وتقبلنا سقوط دولتنا وتفكّك مجتمعنا واحتلالات أرضنا وزوال سيادتنا واغتيال كل من عمل من أجل الوحدة والنهوض والتقدم والازدهار، وحُرمْنا من العيش في دولة وطنية حديثة تليق بالإنسان.
بعد ستة عقود لا تزال أدوات النزاعات والاستقواءات بالولاءات الخارجية تتعاظم وتدق طبول الحروب والانقسامات، ولا تزال موجات العنف والجوع والادعاء والخفة والخواء والفساد تتسبب بالانتحارات الفردية والجماعية التي تقض المضاجع وتهز الوجدان، ولا أزال منذ ما يزيد على العقود الستة وحتى كتابة هذه الكلمات أحلم أن أموت مواطناً لبنانياً في لبنان.