هذه النوبات المحمومة، المتعاقبة بشكل خاطف، من التفاؤل المفرط والتشاؤم المطبق، تكاد ترسم ايقاع تناول مجمل الأحداث من حولنا، بشكل ما فتئ يتنامى منذ اليوم الذي ظهر فيه أنّ ما اعتبرناه، منذ عشر سنوات، مسيرة استقلال وتحول ديموقراطيّ لم تحقّق التحقيب المنشود: سيادة وطنية وسيادة قانون من بعد وصاية. فالتحقيب الواقعي جاء محبطاً: وصاية فجلاء فحرب سرّية (الاغتيالات) فعدوان اسرائيلي فمشروع تغلّب فئوي فصلح دوحة فانتخابات، فنقض للانتخابات وللصلح، فانشطار حول المسألة السوريّة، فتدخّل فئوي في سوريا، فتعطيل لمؤسسة دستورية من بعد أخرى، بالتوازي مع الانتقال من ارهاب التفجيرات الفاشلة الى ارهاب الخطف والهجمات على الجيش.
ولو أن اللبنانيّين اكتفوا بالحنين الى لحظات كان يبدو أن للسياسة فيها معنى، أو سلّموا للتشاؤم واستقرّوا عليه، لهان الوضع. لكن الايقاع الراجح مختلف كثيراً: نوبات من التشاؤم الحاد والتفاؤل غير المضمون.
ما ان يتوارى الحدث الأمني قليلاً حتى يعمّ «التفاؤل التخمينيّ» بأن البلد سيظلّ محمياً بيد خفيّة، ومحافظاً على استقراره الهشّ من الانفجار الخطير، رغم الحريق العراقي السوري الكبير، وتدخل «حزب الله» في سوريا، والتحريك «الجهادي» في لبنان، والفراغ الرئاسي المتمادي، والفراغ البرلماني الداهم. ثم تعترض الحوادث الأمنية هذا التفاؤل التخمينيّ، فينقلب البَسْط غمّاً بين لحظة وأخرى، وتنتشر أحاديث عن نهاية البلد، ونهاية العالم، ويصير الهرج والمرج سوداويّاً بما لا يُطاق، ثم يتوارى الحدث الأمني في غضون ساعات، فتنفرج أسارير التفاؤل التخمينيّ من جديد، وبشكل صاخب في أحيان كثيرة.
أمر مشابه «نفسياً فقط»، يطبع مسار ما اعتبرناه منذ أربع سنوات، ربيعاً عربيّاً. هذا بدوره لم يأت كموجة جديدة من توسّع منظومة «الديموقراطيّة الليبراليّة» العالمية، تقارن بسابقاتها من موجات التوسّع، في الجنوب الأوروبي (اليونان واسبانيا والبرتغال) في السبعينيات، والشرق الأوروبي في أواخر الثمانينيات، وفي اتجاه بعض بلدان جنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية في التسعينيات.
فـ«الربيع العربي» لم يكن بهذا المعنى، موجة اضافية تراكم على هذه الموجات، والفصل الذي أقامته خطابيّات التغيير بين ما هو «دولة» وما هو «نظام» جاء تعسّفياً الى حد كبير. والانتفاض الشعبيّ، ابتداء من ثورة شعب تونس على نظام بن علي، كان في الوقت نفسه انتفاضاً «على الدولة» و«مع الدولة»، وليس فقط «على الحاكم»، و«على نظام الحكم». كان الانتفاض، من تونس الى سوريا، وبالذات في هذين البلدين، وفي الوقت نفسه، انتفاضاً على «النخب» من حيث هي نخب، ومن أجل استبدال نخب بعينها بنخب أخرى.
هذه الطاقة الثورية وبدلاً من أي تقارب من زاوية ما تحمله من الشيء ونقيضه، جرى التعامل معها على الطريقة اللبنانية، واللبنانيون لم يقصّروا بدورهم فأسقطوا اشكالياتهم ووجوههم على كل ما يحصل في البلدان الأخرى. وهكذا، وكما نعيش ايقاع التفاؤل التخمينيّ ثم التشاؤم الكارثيّ ثم التفاؤل مجدّداً، نعيش الدوران نفسه عربياً. لو استطلعت العناوين منذ أول الربيع ستجدها هكذا: الربيع انتصر، الربيع انتهى، الربيع انتصر، الربيع انتهى. الانتخابات التونسية الأخيرة، بكل أهميّتها، جرى اختصارها في واحدة من حلقات هذه السلسلة.
بدلاً من بذل الجهد الفكري والتحليلي المطلوبين، يحلّ الوعظ الأخلاقويّ باباً لطرق كلّ المسائل، بشكل انتقائي، توظيفيّ نافر، طبعاً. لا يهمّ ماذا يحدث في الواقع، المهم كيف يمكن تجييره لإعادة شحن هذا الخطاب أو ذاك. وهكذا، من صندوق اقتراع يقام له التبجيل، الى صندوق اقتراع يطاح به ويساق بعد ذلك التبرير تلو التبرير، نمضي في ايقاع مريب، أشبه ما يكون بمتلازمة مرض الازدواج النفسي الحاد: كآبة مفرطة – ابتهاج فجائي – كآبة ملعونة – ابتهاج قاتل.