لا تملك الشعوب عادةً ترف النقاش حول علاقة جيشها النظامي بقوى مقاومتها الشعبية المسلحة أثناء عدوان شامل ومتوحش من قبل كيان مجاور. الأولوية هي لصدّ هذا العدوان بكلّ الوسائل ومن قبل جميع القوى العسكرية والديبلوماسية والسياسية والشعبية. لكن «فرادة» لبنان لا تقتصر على مناخه وموقعه الجغرافي بل على تركيبته السياسية الهشّة التي تسمح بصعود تناقضاته الداخلية إلى السطح كلّما وقع في أزمة حادّة. أحد أبرز هذه التناقضات الموقف من الجيش اللبناني والدور المرسوم له خلال الحرب الدائرة أو بعدها. احتدّ النقاش في ظل اهتزاز معادلة الردع واقتناص البعض هذه الفرصة للنيل من المقاومة. لكن إشكالية دور الجيش سابقة على الحرب وستكون لاحقة عليها. والتحليل المنهجي بهدوء قد يعيد تصويب القضية بعيداً عن المشاحنات الإعلامية.
تكاد تنحصر الطروحات الداعمة لدور أكبر للجيش اللبناني في الصراع مع الكيان الإسرائيلي بمقاربتين:
الطرح الأوّل إما ساذج أو خبيث؛ ينادي أصحابه بتولّي الجيش اللبناني مهمات الدفاع عن لبنان كبديل عن المقاومة بغض النظر عن الإمكانات العسكرية وآليات الانتقال والجهوزية القتالية. يتماهى هذا الطرح – بغضّ النظر عن النوايا – مع المطالب الأميركية والإسرائيلية ومن تبِعهم من «السياديين». هذه المقاربة هي دعوة مفضوحة لنزع سلاح المقاومة وتنصيب الجيش كحرس حدود للكيان الصهيوني مقابل تعريض عناصره للخطر الداهم وأرض الجنوب للاعتداء الدائم.
الطرح الثاني أكثر جدية وقد ينبع من خلفية وطنية؛ يرفض دعاة هذا الطرح وضع العربة قبل الحصان. يجب تسليح الجيش وتجهيزه كي يكون بالحدّ الأدنى قادراً على الدفاع عن نفسه قبل الدفاع عن أرضه. يصطدم هذا الخيار بالفيتو الأميركي الرافض لأي تسليح نوعي للجيش يُمكّنه من مواجهة الكيان وخلق معادلة ردع، علماً أن هكذا «فيتو» لا أساس قانونياً له. المفروض، مثلما هي الحال عند الدول التي تحترم نفسها، أن يكون قرار تسليح الجيش قراراً سيادياً لبنانياً. غياب هذا القرار هو إذاً، وبموضوعية، ترجمة للنفوذ الأميركي ويعني عمليّاً غياب خيار التسليح من قِبل قوى أخرى مستعدة لذلك.
وهذا يحيلنا إلى نتيجة بديهية: تجهيز الجيش بشكل جدي مرهون باحتمالين لا ثالث لهما، إمّا فكّ ارتباطه مع الولايات المتحدة أو الدخول بالكامل في فلك الهيمنة الأميركية. الدخول في فلك الهيمنة الأميركية يعني الدخول في فلك التطبيع مع إسرائيل. وهو ما يعيدنا إلى المربّع الأول: عدم القدرة على مواجهة إسرائيل. هذه هي حال الجيوش العربية التي تمّ تمويلها وتسليحها من قبل الولايات المتحدة وعلى رأسها جيوش مصر والأردن والسعودية. خصّصت هذه الدول، وبدعم أميركي في حالتي مصر والأردن، ميزانيات مليارية لتسليح وتدريب جيوشها فتمخّضت عن التالي: جيش سعودي يحارب جاره اليمني ويخسر، وجيش أردني يسهم في منظومة الردع الصهيو-أميركية في الجو والبر، وجيش مصري تحوّل إلى شركة مساهمة من رجال أعمال في بزّات عسكرية.
وعليه، لا يقتصر الدخول الكامل في الفلك الأميركي أو الغربي على ضعف القوة العسكرية بل يؤدّي إلى تحوّل في العقيدة القتالية والوظيفة الوطنية للجيش. وتاريخ لبنان نفسه شاهد على ذلك. منذ الاستقلال، لم تكن العقيدة القتالية الرسمية (ولا أقول الفردية لكل عناصر الجيش) في الأساس معادية لإسرائيل. ليس سرّاً أن نواة الجيش اللبناني تشكّلت على نسق الجيش الأردني، أي من قوات بوليسية واستخباراتية تدرّبت تحت إشراف مباشر تنظيمي وتعليمي وتسليحي للقوى المستعمرة (بريطانيا في الأردن وفرنسا في لبنان). ولولا التوازنات الطائفية في لبنان وحكمة قائد الجيش حينها فؤاد شهاب، لكان دور الجيش اللبناني الذي وقف على الحياد في أزمة عام 1958 أشبه بدور الجيش الأردني الذي سهّل التدخّل الأميركي الرجعي لمصلحة أنظمة حلف بغداد. وفي حقبة الدولة الكتائبية أثناء الحرب الأهلية، كاد دور الجيش اللبناني أن يتماهى مع نظيره الأردني في محاربة القوى الفلسطينية والوطنية لكنه انقسم على نفسه وخسر بذلك الإجماع الوطني حوله.
لم تتغيّر العقيدة الرسمية للجيش اللبناني بالفعل لا القول إلا أثناء حقبة قيادة إميل لحّود. أرسى لحّود معادلة الجيش والشعب والمقاومة وهي من المنظور التاريخي الاستثناء وليست القاعدة. وقد سعت واشنطن بشكل حثيث بعد عهد لحّود كي لا يصبح هذا الاستثناء قاعدة وقد قطعت أشواطاً كبيرة في هذا المجال تتحمّل مسؤوليته القوى السياسية كافة وإن بدرجات متفاوتة.
يبقى خيار فكّ الارتباط عن الولايات المتحدة. هذا شرط ضروري لكنه ليس كافياً. ليس خفياً أن الجيوش العربية التي لم ترتبط بالولايات المتحدة، كالجيشين المصري (قبل العصر الساداتي) والسوري، عانت – ومنها ما يزال يعاني – من ترهّل في هيكليتها وفساد أوتوقراطي في قيادتها وممارسات قمعية في صفوفها. وقد هُزمت هذه الجيوش في وجه العدو ولو أن قدرتها على المناورة والتعافي – كما أظهرت إصلاحات عبد الناصر بعد حرب 67 وأداء الجيشين السوري والمصري في بداية معركة 73 – أكبر بكثير من تلك المرتبطة بواشنطن. على أهمية هذا الهامش للجيوش المستقلة من التبعية لواشنطن، لم يرْقَ أداؤها التاريخي يوماً إلى حركات المقاومة غير النظامية وعلى رأسها المقاومات الإسلامية في لبنان وفلسطين. هذه حال معظم الصراعات ذات البعد التحرري من الاستعمار في ظلّ موازين قوى غير متكافئة. ومن يطالب باستبدال القوى غير النظامية بجيش نظامي دون تحوّل في هيكلية الجيش عليه أن يعالج هذه المسألة.
طبيعة الصراع إذاً تحدد طبيعة دور الجيش من عدمه. الموقف من الجيش كمؤسسة أبعد من الردع المجرّد عن الجيوسياسة والتاريخ والجغرافيا. إنه بالأساس موقف من تموضع لبنان في الصراع التاريخي مع الصهيونية وعلاقة لبنان بفلسطين (انعزالي أم تقدّمي) وخيارات الدولة التحالفية مع محيطها كما هو حال كل جيوش العالم. بكلام آخر، السؤال حول دور الجيش لا يمكن فصله عن السؤال الأشمل حول الإستراتيجية الدفاعية ككلّ. النقاش تحت عنوان الإستراتيجية الدفاعية هو الأشمل والأنجع لأنه ينصف الجيش ظالماً كان أو مظلوماً. ليست القصة وضع العربة قبل الحصان أو وضع الحصان قبل العربة. سائس العربة ووجهته هي الأساس: هل سيسلك الطريق من ثكنة مرجعيون إلى البترون أم من عيترون إلى ميرون؟
* أستاذ جامعي