بعد يومين على جولة قائد الجيش العماد جوزف عون على عدد من المواقع العسكرية وإعلانه أن مسؤولية الجيش حماية المتظاهرين وغير المتظاهرين ومنع قطع الطرقات، جاءت عملية فشل انعقاد جلسة مجلس النواب يوم الثلثاء 19 الجاري بعد تطويق المتظاهرين منطقة محيط المجلس النيابي وإقفال عدد من الطرق. هذا التحوّل أدّى إلى اتهام الجيش اللبناني وقائده بالتواطؤ والتساهل وصولاً إلى حد اعتباره طرفاً في هذه المواجهة الحاصلة بين الشعب ومن بقي في السلطة. هذا الإتهام يفاقم المسؤولية الملقاة على عاتق الجيش الذي يبدو أنه الوحيد تقريباً الذي ألقيت بين يديه كرة النار، ليمشي في حقل من الألغام بانتظار حل سياسي لا يزال متعذراً، بسبب رفض “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” ورئيس الجمهورية له. فماذا يمكن أن يفعل الجيش أكثر من ذلك؟ وماذا بعد الإنتقال إلى مرحلة توجيه الإنتقاد العلني له؟
منذ انطلاق ثورة 17 تشرين وفي ظل غياب القرار السياسي يتحمّل الجيش اللبناني مسؤولية كبيرة في الحفاظ على الأمن. هذه المسؤولية تضعه وجها لوجه مع المتظاهرين والساحات ومع السلطة في الوقت نفسه. ثمة من يتهمه بأنه ينفذ أوامر هذه السلطة وأنه يتشدد في مناطق معينة، مثل جل الديب، ويتهاون في غيرها. وثمة من يعتبر أنه يتعاون مع الثورة وأنه ينسق معها. ليست المرة الأولى التي يواجه فيها الجيش مثل هذا الوضع. حصل ذلك في مرحلة 14 آذار 2005 وفي مرحلة أيار 2008 ايام قيادة العماد ميشال سليمان وفي مرحلة حروب عرسال وجرودها ايام قيادة العماد جان قهوجي، وخلال ثلاثة عهود متتالية وصل فيها إلى سدة الرئاسة ثلاثة من قادة الجيش: العماد أميل لحود في العام 1998 والعماد سليمان في العام 2008 والعماد ميشال عون في العام 2016. قبل ذلك كان وصول اللواء فؤاد شهاب إلى الرئاسة في العام 1958 بمثابة استثناء لم يتكرر.
بين العماد والرئيس
في 8 آذار 2017 عين مجلس الوزراء العميد الركن جوزف عون قائداً للجيش بعد ترقيته إلى رتبة عماد. كان ذلك بعد خمسة أشهر على تولي العماد ميشال عون رئاسة الجمهورية. قبل هذا التعيين كانت ساءت العلاقة بين العماد عون و”التيار الوطني الحر” وقائد الجيش السابق العماد قهوجي، ولكن كان من المفترض مع هذا التعيين أن تستوي العلاقة بين الرئيس الجديد والقائد الجديد.
لم تكن تحديات التعاطي مع “الثورة” هي التحديات الأولى التي تواجهها القيادة الجديدة. في 19 آب 2017 أعلن العماد عون بدء عملية فجر الجرود لتحرير جرود القاع وراس بعلبك من مسلحي القاعدة والنصرة والتنظيمات الأصولية الأخرى. كان اللبنانيون ينتظرون مثل هذا القرار منذ اجتاحت هذه القوى بعض مراكز الجيش في جرود عرسال في آب 2014. بعد أحد عشر يوماً أعلن القائد النصر وانتهاء العمليات. هذا الإعلان أتى ناقصاً بسبب فرض التفاوض من أجل السماح لمن بقي من الإرهابيين بالإنتقال إلى الداخل السوري، وبسبب الحؤول دون إقامة احتفال كبير بهذا الإنجاز، الذي أظهرت فيه وحدات الجيش التي شاركت في القتال اندفاعاً واحترافية وجهوزية تامة وتنسيقاً عالياً في النيران والعمليات. وقد ساهم هذا النصر في محو كل ما تمّ إلصاقه بالجيش بسبب النكسة التي حصلت في آب 2014 على رغم النجاح في الكشف عن أكثر من عملية تخريبية أو انتحارية وتوقيف المتهمين بالقيام بها. كان ذلك بمثابة رد اعتبار وانتصار سُجّل في خانة القيادة والقائد الجديد.
من فجر الجرود إلى فجر الثورة
لم يكن من السهل على الجيش الذي خاض معركة فجر الجرود أن يجد نفسه في الشوارع في مواجهة مع فجر الثورة الجديدة أو في مواجهة مسألة حمايتها. على مدى أعوام بنى الجيش مراكزه على طول الحدود البرية الشمالية والشرقية لحمايتها عبر عدد من الأفواج الجديدة وحافظ على انتشاره عند الحدود الجنوبية، وفجأة بات عليه أن يتعاطى مع عدد من الساحات الداخلية.
في الأيام الأولى للإنتفاضة الشعبية شكّكت “السلطة” بدور الجيش. كانت تعتقد أن عليه أن يقوم بقمع المتظاهرين وأن يمنع تجمعاتهم واعتصاماتهم في ساحة رياض الصلح أولاً وفي ساحة الشهداء ثم في ساحات المناطق الأخرى. واتهم أيضاً بأنه لم يمنع قطع الطرقات ووصلت الأمور إلى حد اتهامه بأنه يحرّض على قطعها في عدد من النقاط.
خلفيات ودسائس
لماذا كان هذا الإلتباس؟ لم تكن المسألة بنت ساعتها. عندما تم توقيف القيادي السابق في جيش لبنان الجنوبي عامر فاخوري بعد عودته من الولايات المتحدة الأميركية إلى لبنان، تمّ توزيع صور له مع قائد الجيش. قبل ذلك كان بدأ يتردد أن العماد جوزف عون قد يكون من بين المرشحين الجديين للمنافسة على موقع رئاسة الجمهورية، بينما كان وزير الخارجية رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل يسعى ليكون المرشح الوحيد. لذلك بدأ الحديث عن سوء تفاهم بين العهد وبين قيادة الجيش عبّر عنه أيضاً وزير الدفاع الياس بوصعب، خصوصاً مع تسريب معلومات حول امتناعه عن توقيع البريد الخاص بالقيادة. في ظل هذه الأجواء كان من الطبيعي أن يشك هؤلاء بتصرف القائد لأنهم ربما كانوا ينتظرون أن يبادر الجيش إلى قمع التظاهرات منذ اللحظة الأولى ومن دون انتظار قرار سياسي وأن يكون الجيش جيش العهد و”السلطة”.
قائد الجيش العماد جوزف عون
قبل ذلك ايضاً حصلت حادثة البساتين وقبرشمون في 30 حزيران الماضي عندما قتل مرافقان للوزير صالح الغريب، بعدما حاول عدد من المعترضين المؤيدين للحزب “التقدمي الإشتراكي” على جولة للوزير باسيل في المنطقة منعه من المرور. هناك أيضاً كانت ثمة محاولة لاتهام قيادة الجيش بالتقصير في حماية جولة باسيل أولاً ثم في عدم تأكيد وجود محاولة جدية لاغتياله.
الأمر لمن؟
بعد تدخّل فوج المغاوير ووحدات أخرى في فتح طريق جل الديب واستخدام القوة واعتقال عدد من المشاركين في الإعتصامات وإحالتهم إلى عدد من مراكز المخابرات والتعرض لهم، سرت إشاعات عن احتمال أن يكون تمّ تجاوز قائد الجيش العماد جوزف عون. لقد سبق ذلك تسريب معلومات أكثر من مرة عن أن أكثر من لقاء عقد بين الرئيس عون والقائد عون، أو أكثر من اتصال جرى بينهما، وكان القائد يتريث في تلبية طلب الرئيس قمع التظاهرات والإعتصامات. والواقع أن الجيش قام أكثر من مرة بفتح الطرقات بالقوة أو بالتفاهم مع المتظاهرين، ولكن في الواقع أيضاً لم يكن باستطاعة الجيش أن يبقي نقاطاً ثابتة في هذه الأمكنة المحددة لأن هناك دائماً إمكانية لقطع الطرق في أمكنة أخرى لا يتمركز فيها، ولأنه طالما اعتبر أن المشكلة في البلد سياسية وأن حلها يكون بالسياسة قبل أن يتم تحميل الجيش مسؤولية الحسم. فكيف يمكن أن يكون الجيش موجوداً في الوقت نفسه في أكثر من خمسين نقطة تظاهر وتجمع واعتصام على مدى كل لبنان، وفي مناطق لكل منها حيثيتها الشعبية والطائفية والسياسية.
جولة عون
يوم الأحد 17 الجاري بعد مرور شهر على انطلاقة الثورة تفقّد قائد الجيش العماد جوزف عون الوحدات العسكرية المنتشرة في بيروت وجبل لبنان، والتي تنفّذ مهمّات حفظ الأمن في ظل التحرّكات الشعبية في كل المناطق اللبنانية. كانت الجولة الأولى له وكانت الكلمات الأولى التي خرج فيها عن صمته. قال مخاطباً الضباط والعسكريين: “وعيكم وحكمتكم بالتعاطي مع الموضوع فوّت الفرصة على العالم اللي بدها تجرِّب تصطاد بالماء العكر. أول ما بلّشت المظاهرات قسم كان معنا قسم كان ضدنا. بعد فترة صار اللي كان ضدنا معنا واللي كان معنا ضدنا… برجع بقلّكم هيدي مش مهمتنا ولا مدربين ولا مجهزين وبردو عم ننفذها بكل احترافية ومناقبية ورباطة جأش… هون في تردد طبيعي. ما تلوموا حالكم. ما بتأثر متل ما عم قلكم بحدا. منشوف الوضع بيفرض هيك منقعد على جنب. منستوعب. منرجع منقرب لما نلاقي الوضع مناسب لنقرب. بس هَو منهم أعداءنا. هيدا شعب لبنان. المتظاهر إلو حق علينا والمش متظاهر إلو حق علينا وحرية التنقل مقدسة”… لقد ذكّر قائد الجيش بما يحصل من قتل في العراق وهونغ كونغ وإيران، مع إشارته إلى الحادث المؤسف الذي حصل في خلده وأدى إلى مقتل علاء أبو فخر واضعاً المسألة في إطار التحقيق والمحاسبة.
هذا الموقف من العماد عون حدّد استراتيجية الجيش في التعاطي مع المتظاهرين ومع السلطة على أساس أن المشكلة ستطول وأن احتواءها واستيعابها سيبقيان على عاتق الجيش، وهذا ما يفترض مواجهة تحديات جديدة بعيداً من الأخطاء التي يمكن أن تحصل.
من شبه المتفق عليه مبدئياً أن لا قطع للطرقات لأن هذا الأمر بات يهدّد المتظاهرين والسلم الأهلي، خصوصاً بعدما تمّ أكثر من مرة تسريب أن هناك تهديدات جدية من “حزب الله” وحلفائه بأن يتم فتح هذه الطرق بالقوة. ومن الطبيعي أن يكون عمل الجيش على فتح هذه الطرق من باب التحسب لمنع حصول مثل هذه الأعمال.
من المفترض أيضاً أن يتم وضع حد للإلتباس الذي حصل بعد الشدة التي استخدمت لفتح طريق جل الديب وغيرها وبعد ما حكي عن توقيفات وتحقيقات وإهانات. لأن المطلوب أيضاً توضيح عدم التصدي السريع للإعتداءات التي طاولت خيام رياض الصلح وجسر الرينغ وحرقها وتكسيرها، بالإضافة إلى عدم السماح لـ”بوسطة الثورة” من العبور نحو الجنوب ولأن الكلام الذي قاله العماد عون عن طريقة التعاطي مع المتظاهرين وغير المتظاهرين لا بد من أن تكون مطبقة ومحترمة لدى الضباط والعناصر، لتجنب الوقوع في فخ اتهامهم بالإنحياز لولاءات سياسية لا تخدم المؤسسة العسكرية ولا تأخذ في الإعتبار هذه التوجيهات.
لقد وضع قائد الجيش النقاط العسكرية على حروف المواجهات السياسية ولا يكفي أن يقال أن الذين كانوا معنا في البداية صاروا ضدنا والذين كانوا ضدنا صاروا معنا، للدلالة على أن الجيش يتصرف بمسؤولية لأن المسؤولية يجب أن تعني أن الذين كانوا معنا في البداية لا يزالون معنا والذين كانوا ضدنا صاروا معنا، وإن كان من الصعب في ظل هذه الظروف والتحديات أن يرضي الجيش الجميع. احترام دور الجيش يكون بالإسراع في حل المشكلة بالسياسة لأن المطلوب أكثر إخراج هذا الجيش وقيادته من الشارع والحدود الداخلية إلى حماية الحدود الخارجية وحدود سيادة الدولة والقانون. لذلك لا يمكن أن يلقي من تبقى في السلطة المسؤولية على الجيش وقائده. في جولته العسكرية كان العماد جوزف عون ربما يحاول أن يقول “الأمر لي” وأن يضع حداً لما قيل عن محاولات جرت لتجاوزه، ولا يمكن أن يفرض أي طرف سياسي موقفه ورأيه عليه طالما لا يتمتع بحق الإمرة العسكرية على الجيش. ولذلك فإن الإتهامات التي طاولته بعد فشل عقد جلسة مجلس النواب تضعه أمام مسؤولية أكبر لأنها يمكن أن تعرّضه لحملات أكبر. ولكن في ظل هذه الأجواء وفي ظل الدور الكبير الملقى على عاتق الجيش يبقى الإصطدام معه من باب المغامرات غير المحسوبة النتائج جيداً. وربما على من يفكر بمثل هذا الأمر أن يعد للعشرة.