سنة مضت وأكثر على بدايات التدهور المالي والإقتصادي وطاول الرواتب في القطاعات الخاصة والرسمية إلى رواتب العسكريين والأمنيين في كل الأجهزة الأمنية والعسكرية. وصارت الجملة “الكليشيه” التي تُردد في التظاهرات المطلبية على مسمع القوى الأمنية: “معاشي ومعاشك ما بيعملوا 100 دولار”. أما أسعار السلع فارتفعت بنسبة 400% فهل يدفع هذا الواقع بالعسكر إلى “الفرار” من الخدمة والبحث عن مصدر عيش آخر؟
لا يبدو الغرق في التكهنات المستقبلية حميداً في هذه الفترة، لذلك نسرد وقائع الحال اليوم، والتي تقول ان هناك ما يفوق الـ300 حالة تسريح أو استقالة من بينها 6 ضباط ارتأوا ترك المجال الأمني والعسكري للتوجه إلى فرص عمل أخرى تؤمن لعائلاتهم مدخولاً مناسباً، وفي بعض الحالات اعتبر ترك الأمني لعمله “فراراً” بالمعنى العسكري للموضوع إلا أن الفعل لا يتعدى خيار التوقف عن العمل رفضاً للعمل برواتب أقل من متواضعة والبعض يرى أن في الأمر تضييق خناق على حماة الوطن وضامني أمنه، فما هي تفاصيل الأزمة وما هو الحل المرجو؟ وهل بات العسكر من فئة الفقراء؟
القيادة لم تنف
سلفاً ومن دون أي محاججة، إن رواتب غالبية العسكريين والأمنيين لم تعد تكفي لإعالة أسرهم، ومنهم من يقل راتبه عن مليوني ليرة شهرياً أي بالكاد يستحصل على مئتي دولار بعد أن كان راتبه يساوي 1500 دولار. أما المُلفت فهو أن قيادة الجيش اللبناني مديرية التوجيه لم تنف في بيانها ما تم تداوله في بعض المواقع الالكترونية من اخبار عن عمليات فرار في صفوف العسكريين ومن ضمنهم عدد من الضباط وان قيادة الجيش فتحت تحقيقاً في الموضوع. بل أوضحت أن الأعداد قليلة وان ما يحصل هو “بعض” عمليات الفرار “لأسباب مختلفة” لعسكريين من دون تسجيل “اي ارتفاع يذكر في نسب حصولها”. كما صرّح البيان أن الأسباب غير مرتبطة بالوضع الاقتصادي الحالي، كما انها لم تجرِ اي تحقيق داخلي” مؤكدة انها “ورغم قساوة الاوضاع الاقتصادية والمعيشية فانها على جهوزية تامة لتنفيذ المهام المتعددة الملقاة على عاتقها” وهنا نسأل هل فعلاً هكذا أخبار غير مسبوقة لا تدعو للوقوف عندها؟
يؤكد الباحث في “الدولية للمعلومات” محمد شمس الدين لـ”نداء الوطن” أن عديد القوى الأمنية والعسكرية يبلغ 123 ألفاً، يتوزعون كالآتي: 83 ألفاً في الجيش، و27 ألفاً في قوى الأمن الداخلي، و8 آلاف في الأمن العام، و4 آلاف في أمن الدولة، و450 في شرطة مجلس النواب. كما أن هناك 11 ألف عنصر مفروزون كمرافقين لعسكريين أو سياسيين، ومنهم من هو معين في مخافر لا تحتاج أعداداً كبيرة. وعليه، إن خبر تسريح أو فرار أو ترك 300 عسكري أو أمني هو بسيط جداً لأن الإصلاح الفعلي المطلوب هو بخفض الأعداد من 123 ألف أمني إلى 50 ألف عنصر يلي ذلك تحسين رواتبهم بالأخص أن تكلفتهم مرتفعة جداً وهو ما أشرنا إليه منذ أعوام قبل وصول الأزمة الإقتصادية إلى ما هي عليه الآن”. وعلى الرغم من تراجع قيمة الرواتب وقدرتها الشرائية التي لا ينكرها شمس الدين إلا أن “40% من موازنة موظفي القطاع العام تذهب لرواتب العسكريين والقوى الأمنية بين موظفين حاليين ومتقاعدين علماً أن تكلفة رواتب قوى الأمن الداخلي بلغت نحو 800 مليار ليرة لبنانية أي ما كان يُوازي 530 مليون دولار وفق سعر الصرف الرسمي في العام 2020، ورواتب الأمن العام 207 مليارات ليرة لبنانية ما كان يعادل 138 مليون دولار، ورواتب الجيش 2000 مليار ليرة لبنانية أي ما كان يساوي 1.3 مليار دولار وأمن الدولة 75 مليار دولار ما كان يوازي 50 مليون دولار إلا أن المشكلة أن المبالغ الباهظة بالعملة الوطنية ما عادت تعني شيئاً. وواقع أن المعاش لم يعد يكفي هو حقيقة.
بالكاد تكفي
يقول أحد عناصر قوى الأمن، الذي فضل عدم ذكر اسمه لـ”نداء الوطن” إن راتبه الشهري بالكاد يكفيه “ثمن سجائر وبعض “الساندويشات”، فالـ 100 ألف ليرة فعلياً باتت 10 آلاف ليرة، وهو ما لا يريد أحد تداوله”. ويكمل “وجعنا من وجع الناس وفي بعض الأحيان نتعرض في المواجهات الأمنية إلى الضرب، وهنا لا ألوم أحداً بل أقص الواقع في حين أن الراتب الذي بالكاد يصل إلى عتبة الـ 200 دولار غير جدير بأن أعمل لأيام متواصلة وأقضي أكثر أيامي بعيداً عن عائلتي وأواجه المخاطر ومع كل يوم “زيادة” أقضيه في الخدمة، تتراجع قيمة تعويض نهاية خدمتي التي باتت لا تشتري لي سيارة جديدة حتى ولا تتعدى الـ 10 آلاف دولار للبعض ويمكن أن تصبح بعد سنة مثلاً 5 آلاف دولار إن بقيت العملة تتدهور بهذا القدر المخيف”. ويختم “أذكر أنه وفي الثالث من الشهر الحالي أظهرت كاميرات المراقبة لأحد المصارف في بعلبك إقدام أحد الأشخاص على استخدام سلاح حربي من طراز كلاشنيكوف على صراف آلي لأنه لم يستطع قبض راتبه الشهري، وهنا نشعر بسوء المرحلة وخطورتها وبأن أغلبية المواطنين في لبنان يعيشون ظروفاً جد سيئة”.
أما العميد جورج نادر فاعتبر في حديث هاتفي مع “نداء الوطن”أن كل ما وصلنا إليه اليوم ما هو إلا ما حذروا منه في التظاهرات التي قاموا بها سابقاً وهو نتيجة طبيعية ومرتقبة منذ سنتين لما “أفرزته الموازنات السابقة منذ نهاية سنة 2018 وبداية سنة 2019 حتى الآن من منع التطويع بصفة جنود أو تلامذة ضباط كما منع التسريح (لمن أتم 18 سنة خدمة، و25 سنة للضباط) هو ما أوصلنا إلى كل ما نشهده اليوم من انعكاسات سلبية على المؤسسة العسكرية التي ضربت هيكليتها وهرميتها بشكل مبالغ به كما صرح مراراً وتكراراً قائد الجيش حتى وصل الأمر إلى الخلل في توازنات الترقيات وغيره إضافة إلى وقف كل أنواع أذونات السفر خارج البلاد”. ويتابع “الكل يذكر أنه وأمام البنود المقترحة في الموازنات السابقة التي طاولت الرواتب والتقديمات والتقاعد، سُجلت طلبات كثيرة من قبل عمداء وضباط للتقاعد المبكر، بلغ في العام 2018 حدود الـ 100 طلب تقاعد، كما 50 طلب تقاعد مبكر أو استقالات في 2019. واليوم أنا على يقين أن أكثر من نصف من هم يخدمون الوطن في أي مؤسسة كانت إن فتح لهم باب التسريح سيتوافدون إلى ذلك”.
الراتب مقسوم على 6
ويضيف نادر “الراتب بات مقسوماً على 6، وأنا على يقين أن قيادة الجيش قد قامت بما بمقدورها أن تقوم به والحل اليوم لا يكون بفرز “مساعدات اجتماعية” للعسكريين والأمنيين بل أن يحسنوا الرواتب وأن تدخل أي زيادات مالية في أصول الرواتب أما “الضحك عاللحى” فهو مرفوض. فلا أحد يطالب هنا بمساعدات، بل بالإنصاف”. ويتابع “أما في موضوع الفرار وما تواتر إلى الصحف من أخبار ففيه بعض من الحقيقة، أود أن أشير الى أنه طبعاً من يفر بعد ارساله إلى الخارج للتدريب هو بنظري خائن أما من يعجز عن خدمة وطنه في هذه الظروف السيئة نتيجة عدم قدرة عائلته على التحمل هو غير ملام بصراحة بل علينا جميعاً أن نشعر معه وأن نطالب بزيادة في الرواتب على الأقل بنسب معقولة. وعلى الدولة أن تعي أنه اليوم يتم ضرب عمودها الفقري وما يجمع بين أبنائها والمؤسسة الأهم التي توازي مؤسسة التعليم الرسمي والتي لا يمكن عدم الإلتفات إلى متطلباتها إذ أن مهمة الجيش لا تُختصر بزمن الحروب والصراعات فقط ومهمة القوى الأمنية حفظ الإستقرار وإن أي تضعضع يضرب هذه المؤسسات لا عودة عنه بسهولة”.
إلى متى الحلول الموقتة؟
من جهته يقول عضو حركة الإنقاذ الوطني العميد الطيار أندريه ابو معشر لـ”نداء الوطن” ان هناك أمراً مهماً يجب الالتفات إليه وهو أن ما يحصل اليوم، سيدعو بعد وقت إلى عدم استقطاب المؤسسات العسكرية للأدمغة وربما سيضطرون قريباً إلى خفض متطلبات الذين يريدون التقدم إلى المؤسسة، فكلنا نعلم أن أهم طلاب لبنان يتجهون إلى “الحربية” مثلاً وأن غالبية الضباط والعسكريين هم من حملة الشهادات العليا والإختصاصيين والتقنيين والمهندسين والأطباء وإن التراجع الكبير في قيمة رواتبهم في مقابل ما يمكن أن يجنوه في الخارج بأضعاف أضعاف ما يتقاضونه اليوم سيدفعهم إلى الفرار أو حتى تقديم طلبات التسريح والإصرار على ترك المؤسسة بدل العمل مقابل رواتب بسيطة ومتواضعة” كما شدد أن على الدولة إعادة النظر في رواتب العسكريين على وجه السرعة”.
إزاء ذلك كله، من المرجح أن تتجه السلطة إلى الحلول الوقتية “المساعدتية” التي لن تؤدي إلا لتصاعد حدة المشكلة ما لم يحدث تغيير سحري ما طال تأجيله. والسؤال الأهم، إلى متى يا ترى ستستطيع مؤسساتنا الوطنية الجامعة أن تصمد؟ وهل في عدم القدرة على الصمود يلوح انقلاب؟!
رواتب صادمة!
بلمحة بسيطة نلاحظ أنّ الجندي، الذي كان يتقاضى مليوناً و292 ألف ليرة، أيّ 860 دولاراً، أصبح يتقاضى اليوم نحو 138 دولاراً، وهو الرقم الذي سينخفض تباعاً إذا تخطّى سعر الصرف عتبة الـ9300 ليرة لبنانية للدولار الواحد. وبالنظر إلى الراتب الصافي للعماد قائد الجيش، الذي يتقاضى 6 ملايين و300 ألف ليرة، بات راتبه تبعاً للسعر الجديد الـ677 دولاراً أميركياً وهو رقم صادم، في حين أنّ اللواء درجة أولى، الذي يبلغ راتبه الصافي 4 ملايين و960 ألفاً، أصبح يوازي 533 دولاراً. أما راتب العميد درجة أولى، فلا يزيد على الـ387$ بناءً على راتبه الذي يلامس الـ 3 ملايين و600 ألف ليرة. بينما لن يتعدّى راتب العقيد درجة أولى في الجيش هذا الشهر الـ 264$ على أساس مليونين و460 ألف ليرة.
وكلّما انخفضنا في الرتب العسكريّة بانت الكارثة، فراتب المقدّم درجة أولى وصل إلى 234$، أمّا الرائد في الجيش والذي يتقاضى 2 مليون ليرة كراتب صافٍ بات معاشه 215$ في الوقت الذي يصل راتب النقيب إلى الـ190$. أرقام كارثية أخرى في راتب الملازم الأوّل في المؤسسة العسكريّة بقيمة 175 دولاراً بناءً على مليون و634 ألفاً كراتب بالليرة اللبنانية، وهو الأرحم بقليل من راتب المؤهّل الأوّل الذي لا يتجاوز الـ144 دولاراً.