لا يخفى على أحد أنّ العسكريين في الأسلاك الأمنية والعسكرية يعيشون حالاً من الرعب من جرّاء فقدان رواتبهم الشهرية قدرتها الشرائية. بين شهر وآخر، لم يعد لرواتبهم أي قيمة. لا يكفي راتب العسكري لشراء إطار سيارة اليوم. وفي ظل غياب أي خطط لمواجهة الواقع المستجد، يتخبط ذوو البزات المرقطة حيال مصير أسود ينتظرهم
طلب ضابط برتبة نقيب في قوى الأمن الداخلي مأذونية للسفر لرؤية زوجته الأميركية التي مرّ عام من دون اجتماعه بها. نال الضابط المذكور الموافقة على المأذونية ليُسافر، لكنه لم يعد مجدّداً. يقوم اليوم بإجراءات التقدم للحصول على إقامة وجنسية كي لا يعود أبداً. يعلم أنّه يرتكب جُرماً، لكن التضحية التي يقوم بها تضمن له مستقبلاً أفضل. ضابطٌ آخر سافر إلى بلجيكا ولم يعد أيضاً. رتيب في جهاز آخر حصل على مأذونية ليُسافر إلى تركيا من دون رجعة. زملاء له يتحدثون عن نيّته الاستقرار نهائياً هناك. فرّ عدد من الضباط والعناصر من صفوف قوى الأمن الداخلي للأسباب الاقتصادية نفسها. سُرِّبَ أنَّ عدد الضباط الفارين بلغ خمسة، يُضاف إليهم عشرات العناصر الذين طلبوا مأذونيات، لكنّهم لم يلتحقوا بالسلك مجدداً. ضباط برتبة نقيب وملازم أول وملازم لم يلتحقوا مجدداً بالسلك. كذلك سُجّل فرار عدد من العناصر والضباط من عدد من المفارز، قبل أن تلجأ قيادة المديرية إلى منع سفر العناصر أيضاً، يُضاف إليهم أولئك الذين تقدموا بطلبات استقالاتهم، علماً بأنّ طلبات الاستقالة المقدمة من ضباط برتبة مقدم وما دون تُرفض، إلا إذا استغنى عن راتبه التقاعدي.
المشهد نفسه تكرر في الجيش. ورغم نفي المؤسسة العسكرية لأخبار فرار عسكريين من الخدمة من جرّاء تردّي الأوضاع الاقتصادية، إلا أنّ المعلومات الأمنية تؤكد تسجيل فرار عشرات العناصر من دون معاودة التحاقهم بمراكز خدمتهم. بدأت المسألة بحصول عناصر وضباط على مأذونيات للسفر من دون عودة قبل أن تُلغى المأذونيات. تزامن ذلك مع فقدان رواتب العسكريين لقدرتها الشرائية، ما وضع العناصر أمام خيارات صعبة، حيث لم يعد يكفي الراتب لشراء الحاجات الأساسية للعيش. عندها، عمد بعض العناصر إلى الفرار من دون الالتحاق بمراكزهم العسكرية. وعلمت «الأخبار» أنّ حالات الفرار هذه تُسجّل بموجب برقيات تُرفع من المراكز التي تشهد فرار العسكريين. ونقلت مصادر أمنية أنّه سُجِّل في الآونة الأخيرة فرار عدد من العسكريين من مراكز خدمتهم في بيروت وقاعدة رياق الجوية على سبيل المثال لا الحصر.
لما سُدّت السُبل في وجه الضباط والعناصر الباحثين عن طريقة للنجاة في خضم الأزمة الاقتصادية الحادة، عمد عدد منهم إلى تقديم استقالاتهم من السلك، مع أنه لا يحق لهم الاستقالة بسبب قانون الموازنة الذي منع تقديم الاستقالات لمدة ثلاث سنوات، حيث يُلزم المتقدم بالاستقالة بالاستغناء عن حقه في الحصول على راتب تقاعدي مدى الحياة. وقد استُثني من القانون الضباط ممن هُم برتبة عقيد وعميد، لكونهم يحق لهم التقدم بالاستقالة بعد إتمامهم عشرين عاماً في الخدمة.
وعلمت «الأخبار» أنّ نحو ١٥ ضابطاً من رتبتي عقيد وعميد تقدموا باستقالاتهم التي وقّعها المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، إلا أنّ رئاسة الحكومة ردّتها. وذكرت المصادر أن عدداًَ من الضباط يستعدّون للتقدم بشكوى أمام مجلس شورى الدولة، لإجبار الدولة على قبول استقالاتهم.
عدد من الضباط يستعدّون للتقدم بشكوى أمام مجلس شورى الدولة ضد مؤسّساتهم
الوضع في الأمن العام ليس أفضل بكثير. فقد وضع المدير العام اللواء عباس إبراهيم معنويات العسكر تحت المجهر؛ إذ طلب من رؤساء المكاتب والدوائر والمراكز كافة عقد اجتماع دوري للوقوف على الحالة المعنوية للعسكريين، إثر تسجيل عدد من عمليات الفرار لضباط وعناصر من الخدمة بسبب الوضع الاقتصادي المتردّي. وجاء في برقية صادرة عن المديرية «يُطلب إلى كافة رؤساء المكاتب والدوائر والمراكز عقد اجتماع دوري كل 15 يوماً مع العسكريين التابعين لهم مع مراعاة كافة التدابير الوقائية ( التباعد ، الكمامة… ). تهدف هذه الاجتماعات إلى الوقوف على أوضاع العسكريين المادية والمعنوية، والاستماع إلى مشاكلهم وهواجسهم، والعمل على استيعابهم، على أن يُرفع تقرير مفصل إجمالي على مستوى المكاتب والدوائر الإقليمية والحدودية نتيجة الاجتماع إلى مكتب شؤون العديد». كما طلبت من مكتب شؤون العديد «رفع تقرير إجمالي دوري بمضمون التقارير الواردة من القطعات أعلاه إلى المدير العام، وذلك على صعيد الإدارة المركزية، وتقرير على صعيد الدوائر والمراكز الحدودية والإقليمية».
وتتحدث مصادر أمنية عن توجه لدى قيادة الجيش وقوى الأمن الداخلي لفتح باب التبرعات لمساعدة العسكريين لمواجهة الأزمة الاقتصادية التي تهدّد الأمن الاجتماعي للعسكريين. وذكرت المعلومات أنّ هذا الباب يسمح بالتبرع بمساعدات عينية (مازوت، ملابس، غذاء) أو مساعدات مالية من قبل أفراد وجمعيات لصالح المؤسّستين.
عام 2009، وبعد توقيف عدد من العملاء الذين يعملون لحساب الاستخبارات الإسرائيلية في صفوف الجيش، راجت «نكتة» في المؤسسات الأمنية والعسكرية مفادها أن «عدم توقيف أيّ ضابط من قوى الأمن الداخلي بتهمة التعامل مع العدو، سببه أن ضبّاط الأمن الداخلي محصّنون ضد الخيانة… بسبب المال الوفير الذي يؤمّنه الفساد لهم». هي طرفة فيها الكثير من التعميم، والإجحاف أيضاً، لأن الفساد لم ينل من جميع الضبّاط بطبيعة الحال، لكنها انتشرت حينذاك. حتى إن بعض الضبّاط العاملين في مجال مكافحة التجسّس تبنّوا نظرية أن «أموال الفساد تحول دون الخيانة». «النكتة» باتت معكوسة اليوم. فحتى الفساد، في غالبيّته يُنتج مدخولاً بالليرة اللبنانية. وبتراجُع الأعمال في كل القطاعات، يتراجع «المال الحرام» أيضاً، فضلاً عن تراجع قيمته بسبب انخفاض قيمة العملة الوطنية.