تخوض المؤسسة العسكرية معارك شرسة وعلى عدّة جبهات، في محاولة لتفادي السقوط والانهيار، الذي ستكون نتائجه كارثية على وضع البلد، بدءاً من أمنه الاجتماعي وصولاً إلى أمنه السياسي. وفي هذا السياق أتت الزيارة الأخيرة لفرنسا، في وقت لا زيارة مرتقبة لقائد الجيش إلى أميركا في القريب العاجل.
في 8 آذار الفائت، دقّ قائد الجيش العماد جوزف عون ناقوس الخطر، مطلقاً بيان رقم -1- على المستوى المعيشي والأمن الاجتماعي، في محاولة لتنبيه السلطة المُمعِنة في فشلها من مغبّةِ عدم إيجاد المعالجات السريعة للأزمة المتفاقمة، والتي باتت تؤثر بشكل كبير على العسكريين في الجيش والقوى الأمنية كافة.
وبمبادرة منها، وجّهت قيادة الجيش عدّة كتب الى قادة الجيوش العربية والملحقين العسكريين في الخارج تشرح فيها حاجات الجيش في ظل «السقوط الحرّ» الذي تسير فيه الأزمة اقتصادياً ومالياً واجتماعياً، والذي يهدّد حصون الدولة بكاملها.
إستجاب العديد من الدول لمطالب الجيش، فتم إرسال المواد الغذائية، والبعض أرسل الأموال كالعراق. الفرنسيون، الذي يتابعون الوضع اللبناني عن كثب، وكان لهم مبادرة سياسية إنقاذية أفشلتها المنظومة الحاكمة، يؤكدون، مثل الأميركيين والغرب، رهانهم الكبير والوحيد على الجيش اللبناني، للمناقبية والنزاهة والشفافية التي يمتلكها. ويعملون لهدف تأمين الدعم اللازم للجيش اللبناني لمنع تدهور وضع البلد، كما أن هناك قناعة فرنسية أنّ الجيش هو العمود الفقري للبنان، واذا اهتزّ الجيش اهتزّ لبنان.
وبمبادرة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وجّه قائد الجيش الفرنسي فرنسوا لوكوانتر دعوة للعماد جوزف عون لزيارة باريس والاستماع إليه عن وضع الجيش. واللافت، أنه لدى وصول عون إلى العاصمة الفرنسية، لم يتم الالتزام ببرنامج الزيارة كما كان مقرراً، فخرق الرئيس الفرنسي البروتوكولات، واستقبل شخصياً العماد عون، واطّلع منه على وضع الجيش.
اللقاء مع ماكرون كان إيجابياً. استمع بإصغاء إلى قائد الجيش وشرحه للوضع الذي تمرّ به المؤسسة العسكرية. وأبدى اهتماماً لمعرفة حجم تأثير الأزمة المالية على الجيش، وكان متفهّماً وأكد الوقوف إلى جانب الجيش وتأمين الدعم له، كما وعد بعدمِ ترك لبنان وخصوصاً في هذه المرحلة.
إيجابيةُ اجتماع الإليزيه، سَرت على الاجتماعين اللذين عقدهما القائد عون مع وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي، وقائد الجيش الفرنسي، الذي قدّم وساماً لعون باسم الرئيس ماكرون.
والزيارة كانت مناسبة أعلنت خلالها بارلي عن التحضير لمؤتمر دولي، قد يكون في حزيران المقبل، وهدفه تعبئة الدول وحضّها على دعم الجيش إنسانياً، خصوصاً بعدما علمت القيادة الفرنسية الحاجات الطارئة المطلوبة كمساعدات للجيش اللبناني، أي مواد غذائية وأدوية ومال لتحسين رواتب العسكريين، إلى الفيول لتأمين عمل الآليات. وبالتالي، الهدف من المؤتمر ليس تسليح الجيش في هذه المرحلة بقدر ما هو مساعدته إنسانياً.
فالهمّ الأول لدى الجيش اليوم ليس الحصول على السلاح والعتاد، بل الأولوية هي للأمن الاجتماعي أولاً. وثانياً، تأمين مقوّمات صمود العسكر معيشياً في ضوء قرارات رفع الدعم المرتقبة واشتداد حدّة الأزمة المالية والاقتصادية، التي تَعد بثورة جياع قد تتخطى ما رأيناه في 17 تشرين 2019، وقد تنتهي بفوضى ونار في الشارع، نتائجها قد لا تكون مضمونة على مستوى البلد ككل. من هنا، يؤكد مصدر عسكري في قيادة الجيش لـ»الجمهورية» أنّ العسكريين يعلمون حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم، وهناك ثقة بأنّ العسكري يعلم تماماً المهمة المنوطة به. وعادة ما تركّز توجيهات قائد الجيش للضباط وقادة الألوية على ضرورة الالتزام بالانضباط والمناقبية والحفاظ على المهمة الموكلة إلينا كجيش، وهي مهمة حفظ الوطن والكيان، وهي مهمّة مقدسة. وأمام الأزمة التي تعصف بالبلد، يقرّ المصدر أنها «تترك تداعيات صعبة داخل الجيش، قد تضطر بعض العسكريين إلى ترك السلك أو السفر، أو التفتيش على عمل آخر مواز مع الخدمة في الجيش، وهو أمر باتت القيادة تغضّ النظر عنه، لكن رغم ذلك، يؤكد أنه مع وقوف الدول الكبرى إلى جانب الجيش، فلا خوف من انهيار المؤسسة العسكرية».
زيارة القائد اللبناني إلى فرنسا، والحفاوة التي استُقبل بها، قد لا تلقى استحساناً لدى أكثر من طرف سياسي وحزبي، لأنّ القراءات في مضمون الزيارة قد تكون فضفاضة، إن سياسياً أو عسكرياً. فاستقبال ماكرون لعون والكلام الأميركي عن تسليح الجيش، أكد أنّ المجتمع الدولي فقد الثقة بكلّ الطبقة السياسية وبقي يؤمن بالمؤسسة العسكرية. وهذا كان واضحاً جداً بكلام الفرنسيين مع القائد عون، وتأثرهم بالكلام الذي سمعوه، وتأكيدهم على رهانهم على الجيش حماية للبنان. وهذا الأمر، لن يمنع أن يكون الجيش وقائده في الأيام المقبلة عُرضة للاستهداف والاستغلال السياسيين، من قبل منظومة فاشلة، عفنة وفاسدة، همّها تأمين مصالحها الشخصية وأجندتها الحزبية على حساب الوطن واللبنانيين، «لكن هذا لن يؤثر على قيادة الجيش، فقائده لا يقول في العلن غير ما يبطنه سراً، ولا ازدواجية في المواقف أكان في الداخل أو في الخارج».
وتؤكد مصادر الجيش أنّ «محور الحديث مع الفرنسيين تركّز على الجيش ومتطلباته، ولم يتم التطرق لا من قريب ولا من بعيد عن أي شيء يتعلّق بالأزمة السياسية، أو أي حلول لهذه الأزمة عبر الجيش اللبناني، إن من ناحية قيام حكومة عسكرية، أو انتخابات رئاسية مبكرة أو غيره. فبالأساس، قيام حكومة عسكرية في لبنان أمر صعب، وربما يحتاج الى توافق محلي وغطاء دولي، وهذا الموضوع لم يُطرح مع الجانب الفرنسي. كما أنّ أحداً لم يكاشف قائد الجيش بموضوع رئاسة الجمهورية. ولا نية لدى العماد جوزف عون اليوم ان يكون مرشحاً للرئاسة، بل همّه الأساسي تأمين ما يطلبه العسكريون».
وتؤكد المصادر أنّ «قائد الجيش لم يرشّح نفسه يوماً للرئاسة، بل الناس التي تؤمن بمناقبيته رشّحته وترشحه دوماً. ودرجت العادة في لبنان ان يكون قائد الجيش مرشحاً طبيعياً لرئاسة الجمهورية، من هنا، يأتي الحديث عن رئاسة الجمهورية، لكنّ الأمر ليس مطروحاً بالنسبة إليه اليوم».
هذه المعطيات، لن تجعل القوى السياسية مكتوفة الأيدي أمام منافس شرس كجوزف عون، فالرجل المعروف عنه صلابته وحكمته، قد يصادف سيناريوهات سياسية لإغراق المؤسسة العسكرية في فوضى الداخل ومتشعبّاته، لطرحه خارج نادي الرؤساء المحتملين، إلا أن القريبين منه يؤكدون أن «الرجل، يتقن جيداً فنّ التعاطي بحذر مع اللعبة السياسية الداخلية، لذلك، هو يحرص على ايجاد علاقة جيدة مع كل الأطراف السياسية في البلد، وهو يدرك المسؤوليات المنوطة به اليوم وغداً وبعد غد، وهو أنّ الجيش مكلّف الحفاظ على أمن البلد، ولا خلل سياسياً في هذا الموضوع، وهو لديه التغطية السياسية الكاملة من كل الفرقاء ومن رئيس الجمهورية. حتى أنّ التنسيق قائم بينه وبين «حزب الله» في ما يتعلّق بالقضايا التي يعجز الحزب عن حلّها أو الدخول فيها. وما يُحكى عن رهانات دولية لوضع الجيش بوجه «حزب الله» أو أقلّه يشكل درعاً للحدّ من هيمنته، غير صحيح. فلم يطلب الأميركيون أو الفرنسيون يوماً لقاء تقديم مساعدات عسكرية للجيش اللبناني شروطاً تتعلق بمواجهة «حزب الله»، بل معلوم أنّ برنامج المساعدات الأميركية على سبيل المثال مقرّر سلفاً، ويتم تقييمه كل فترة».
وفيما يطوف الشارع اللبناني على صفيح ساخن من الرسائل السياسية، يؤكد المصدر العسكري أنّه «طالما انّ الجيش صامد، طالما انه سيقوم بأقصى واجبه للحفاظ على الدولة وتفادي أي انهيار. وما يقوم به اليوم في سبيل تحصين المؤسسة العسكرية هو للتخفيف من مسار عملية انهيار الدولة».
لا رسالة يوجهها الجيش تفادياً للتأويلات والتفسيرات، لكن كما يُقال «يُقرأ المكتوب من عنوانه»، وعنوانه أنّ العمل بصمت أحياناً قد يكون رسالة بحدّ ذاتها، وهو ما يجيده قائد الجيش جوزف عون، فكيف به إذا تكلّم.