Site icon IMLebanon

الجيش اللبناني: ما له وما له

 

 

 

لم يحصل أي هجوم إعلامي وسياسي كما كان منتظراً بعد زيارة قائد الجيش اللبناني العماد جوزف عون الى باريس. والسبب يعود لأمرين: الأول، تأكيد عون على حصر مباحثاته هناك بالشؤون العسكرية. والثاني، خوف الطبقة السياسية من تداعيات أي هجوم عليهم وعلى عائلاتهم وحاشياتهم لجهة وضعهم على منصة العقوبات، خصوصاً بعد دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للقائه.

 

غير أن هذا الإنكفاء القسري عن تناول المؤسسة العسكرية الأم وقائدها بالتجريح والتهشيم لن يطول كثيراً، ذلك أننا كلما اقتربنا من إستحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية، سيسعى بعض المرشحين الموارنة المحتملين لموقع الرئاسة وبمواكبة من جيوش ذبابهم الإلكتروني لإخراج العماد جوزف عون من هذا السباق الى قصر بعبدا، حتى لو لم يعلن رغبته أو نيته أو طموحه المشروع للمشاركة فيه. إضافة الى أن زياراته التي ستتوالى الى العديد من العواصم في المرحلة المقبلة بحثاً عن مصادر دعم وتمويل لتأمين صمود أفراد الجيش وضباطه في مواجهة الأزمة المعيشية، ومن الممكن أن تشمل هذه الزيارات لقاءات مع رؤساء أو نافذين على مستوى القرار السياسي في تلك العواصم.

 

ما يعنيني شخصياً ويعني الكثيرين من المنتمين الى خيار المقاومة “الصدري” (نسبة الى مؤسسها الإمام موسى الصدر)، هو مقاربة موضوع الجيش اللبناني من منطلق وجودي ووطني بحت في ظل هذه الأزمات العصيبة والخطيرة التي يعيشها لبنان واللبنانيون. وذلك بناءً على الأدبيات الوطنية والسياسية التي زرعها فينا هذا الإمام حول مسؤولية السلطة السياسية في الدفاع عن لبنان وخصوصاً جنوبه.

 

يقول الصدر في مهرجان صور في 6/5/1974: قلنا للحكام دافعوا عن الجنوب، قلنا لهم الشرط الأول في المسؤوليات الوطنية هو الدفاع، حاولوا أن يتهموا الجيش. قلنا لهم إن الجيش مهيّأ. أيها السياسيون الجبناء أمروا الجيش! أمروا الجيش فيدافع ويستميت.

 

لذلك وعلى الرغم من المحطات الدموية التي مرت بها العلاقة بين تيار المقاومة “الصدري” الذي انطلق مع أفواج المقاومة اللبنانية (أمل) والذي يحمل رايته اليوم “حزب الله”، وبين السلطة السياسية التي وضعت الجيش اللبناني في مواجهة هذا التيار، بقيت تحكم هذه العلاقة الثوابت التأسيسية للمقاومة والتي كانت وما زالت تعتبر الجيش المظلة الوطنية الشرعية للكيان كله وفي قلبه المقاومة.

 

والدليل على ذلك مثلاً، أن حادثة إطلاق بعض عناصر الجيش النار على المتظاهرين تحت جسر المطار رفضاً لما يسمى “إتفاق أوسلو”، والذي أدى الى إستشهاد وجرح العديد من المواطنين اللبنانيين المؤيدين للمقاومة، هذه الحادثة لم تقف حاجزاً أمام تأييد أمل و”حزب الله” لقائد الجيش العماد إميل لحود آنذاك للوصول الى رئاسة الجمهورية.

 

كذلك الأمر مع بداية عهد الرئيس لحود، حين دُفِعَ بعض الشبان اللبنانيين في حركة مسرحية – مخابراتية الى إزالة الشريط الشائك الذي كان يطوق المنطقة العازلة بين الأراضي المحتلة وبين الأراضي المحررة في بلدة أرنون، هذه الحركة التي كانت ستؤدي الى إلغاء المنطقية الفراغية بين مواقع العدو في قلعة الشقيف ومحيطها وبين مسارب تحرك المقاومين، مع ما استتبع ذلك من محاولات لتثبيت نقطة عسكرية للجيش وفتح مخفر للدرك اللبناني. ولولا الإتصالات العاجلة مع القيادة السورية الراعية حينها عبر وزير خارجيتها فاروق الشرع لكان قد تم تثبيت تلك النقطة وفتح ذلك المخفر.

 

وإذا كانت الأفعال في مرحلة لحود لا تعبر بالضرورة عن نواياه الإيجابية تجاه خيارات لبنان الوطنية وفي مقدمها المقاومة. إلا أن الحال مع قيادة ميشال سليمان للجيش أو في الرئاسة لم تكن كذلك أبداً. وقد كانت أبرز محطاتها حادثة إطلاق النار عن عمد على مواطنين لبنانيين تظاهروا رفضاً لظروفهم المعيشية، هذه الحادثة التي حصلت في بداية العام 2008، والتي ذهب ضحيتها وجرح فيها أيضاً العديد من هؤلاء المواطنين المظلومين.

 

والمفارقة أن قيادة المقاومة لم تقف سداً في وجه إنتخاب سليمان لرئاسة الجمهورية بعد اجتماعات “الدوحة”، في وقت كانت قد نجحت فيه بإسقاط مفاعيل جلسة حكومة فؤاد السنيورة في 5 أيار لجهة إستهداف أحد أسلحة المقاومة، وبالتالي كان بإمكان هذه القيادة أن تقول “الأمر لي” في اختيار من تريد لرئاسة البلاد.

 

في تلك المراحل كافة ومعها مرحلة قيادة العماد جان قهوجي، كان واضحاً أن موقع قيادة الجيش كان يستعمل وفق تخطيط مدروس ومسبق كمطية للوصول الى قصر بعبدا.

 

لا شك اليوم أن هذه السوابق تلقي بظلالها على ردود فعل القوى السياسية الداخلية وأيضاً الخارجية الفاعلة في الشأن اللبناني تجاه العماد جوزف عون، مما حَمَّله عبئاً تلقائياً يضاف الى أعبائه الحساسة والدقيقة التي يواجهها بدءاً من إنتفاضة “17 تشرين” وصولاً الى تداعيات الأزمات المالية والإقتصادية والمعيشية والتي طاولت الجيش كقوة أولى مسؤولة عن حماية الأمن الاجتماعي كما السلم الأهلي.

 

ويزيد على ذلك الحملات التي كانت تتهم عون بالسعي الى “أمركة” الجيش ومؤخراً تهمة “فرنسته”! مع العلم أن الإتفاقيات التي أبرمتها السلطات الحكومية والتشريعية اللبنانية المتعاقبة مع الحكومة الأميركية هي ذاتها التي كانت وما زالت قيادات الجيش منذ العام 2007 تعمل وفقها، والتي أبرمت مثيلاتها مع فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وكندا.

 

الفارق الوحيد أن قيادات الجيوش في الحكومات الأجنبية المعنية وجدت في العماد جوزف عون شخصية عسكرية جدية تحصر حواراتها معها دائماً بما يعزز قدرات الجيش اللبناني وتمكينه من مواجهة أعداء لبنان.

 

من الطبيعي أن تعمل الولايات المتحدة الأميركية على زرع الشقاق بين الجيش و”حزب الله” كحالة مقاومة، وهو أمر تسعى لتحقيقه أيضاً عبر القوى السياسية الحليفة والمخاصمة للحزب. وإذا كان بعض هذه القوى قد استجاب للمسعى الأميركي أو عمل على التحايل عليه دون جدوى، غير أنه لم يسجل أن قام الجيش تحت قيادة عون بأية خطوة أدت الى تسهيل حصول هذا الشقاق.

 

المسألة أبسط مما يتوهم البعض، الجيش اللبناني بحاجة الأمس قبل اليوم الى مبلغ يصل الى مائة مليون دولار أميركي للسنة المقبلة، كي يضمن إستمرار قدرة أفراده ورتبائه وضباطه على العمل والصمود للحفاظ على وحدة لبنان واللبنانيين.

 

وبالتالي ليس على السلطة السياسية مجتمعة ومتشاركة بشقيها تجمع “8 آذار” وما تبقى من قوى “14 آذار”، ليس عليها سوى السعي لدى حلفائها الإقليميين لتأمين هذا المبلغ ومعه بديل المساعدات والهبات والمنح العسكرية واللوجستية الغربية والعربية كافة، والأهم الإتفاق على إقرار ذلك ضمن الأطر الدستورية كي تعمل قيادة الجيش وفقها، وبالطبع سيوفر ذلك تنوعاً في مصادر تسليح الجيش ومساهمة عملية في تأمين مستلزمات قيامه بدوره الوطني والسيادي.

 

هذه القراءة لا تهدف مطلقاً الى تبييض صفحة العماد جوزف عون الناصعة البياض أصلاً وطنياً ومناقبياً وسلوكاً وأخلاقاً، لكنني دون شك أدعو السلطة السياسية ووخصوصاً المرشحين الموارنة المفترضين لرئاسة الجمهورية، أدعوهم الى الإنتباه الى ضرورة عدم الخلط بين مساعيهم لقطع الطريق على الترشح الإفتراضي للعماد جوزف عون للرئاسة وبين اللعب بنار تهشيم صورة الجيش وتشويه سمعة قيادته، لأن هذه النار ستحرق لبنان بمن فيه!

 

لقد فشلت السلطة السياسية المزمن منها والمستجد في الحفاظ على مصداقية مؤسسات لبنان الدستورية، بل أنها قادتها ومعها المؤسسات العامة والإدارية والقضائية والإقتصادية والمالية الى الإنهيار، ولا أرى أنه لديها أي مانع وطني أو أخلاقي من الإجهاز على الضمانة الوطنية الوحيدة المتبقية: الجيش اللبناني. وأنا بذلك لا أفتري مطلقاً على هذه السلطة لأنها أثبتت أنه عندما تتعلق المسألة بمصالحها الشخصية أو الطائفية أو الحزبية أو الإقطاعية تُسقِط كل المحرمات!

 

غير أننا يجب أن نعول على البقية المتبقية من اللبنانيين التي كانت وما زالت تؤمن بأن لبنان هو وطن نهائي لكل أبنائه ولا ملجأ لهم غيره، وبأن ما قاله الإمام الصدر في 23/2/1977 “إن الجيش هو العمود الفقري لبناء الدولة، وهو سياج الوطن والبوتقة التي ينصهر فيها أبناء لبنان ليصبحوا مسلكية وهدفاً مواطنين صالحين. إنه درع الوطن والمواطن أمام الأعداء في الخارج وأمام الأعداء في الداخل. وأمام نقاط الضعف والثغرات الداخلية التي تفوق في أخطارها، خطر العدو الخارجي” يمكن أن يشكل مدخلاً لإعادة بناء وطنٍ يستحقه أولادنا وأحفادنا والأجيال المقبلة.