Site icon IMLebanon

دفاعاً عن الجيش وقائده

 

ليست المشكلة مع قائد الجيش العماد جوزف عون بل مع المؤسسة العسكرية. إذا كان من يهاجم قائد الجيش يصرّح بأنه لا يستهدف الجيش فذلك لكي يسهّل على نفسه عملية الهجوم ولكي يغطّي الهدف الحقيقي لإطلاق النار. فالهجوم على القائد يبقى في مستوى إطار الشخص بينما الهجوم على المؤسسة ودورها يكون أكبر من أن يتمّ تمريره بسهولة، والمشكلة لم تبدأ مع جوزف عون حتى يتمّ حصرها به.

في العام 2006 في جلسة من جلسات الحوار الوطني، قبل حرب تموز، كان الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله مشاركاً وقدم مداخلة مسهبة حول نظرته لمسألة الإستراتيجية الدفاعية التي كانت تتمّ مناقشتها. خلاصة تلك المداخلة كانت تقول أن “حزب الله” سيبقى متمسّكاً بسلاحه طالما أن الدولة ضعيفة وغير قادرة على حماية لبنان، وطالما أن الجيش اللبناني لم يصل إلى تحقيق التوازن الإستراتيجي مع العدو الإسرائيلي. تلك النظرية كانت تعكس الإستراتيجية التي طُبِّقت على الجيش منذ العام 1991 في ظل عهد الوصاية السورية، وكانت تقوم على قاعدة أن الجيش يبقى أداة من أدوات عهد الوصاية ينفّذ ما يريده جهاز الأمن اللبناني السوري، وبالتالي لا يمكن أن يصبح جيشاً محترفاً ولا يمكن أن تتعهّد الدولة الواقعة تحت تلك الوصاية عملية تسليحه وتنظيمه.

 

خلاصة تلك التجربة أنّه كان من المقرّر أن يبقى الجيش ضعيفاً بمثابة جهاز شرطة داخلية لا يرتقي إلى مستوى تولّي مسؤولية الدفاع عن لبنان، وفي ظلّ هذه المعادلة يبقى سلاح “حزب الله” هو الذي يؤمّن القيام بتلك المهمّة ويبقى “الحزب” هو الذي يتولّى عملية تسليح نفسه. جيش ضعيف يعني مقاومة باقية. لذلك كان المطلوب أن يبقى الجيش ضعيفاً.

 

في عهد الوصاية وبعده

 

بعد اقتحام الجيش السوري مع وحدات تابعة لقيادة جيش العماد أميل لحود قصر بعبدا ووزارة الدفاع في 13 تشرين 1990 بدأت مرحلة جديدة من مسار المؤسسة العسكرية. باتت قيادتها خاضعة للقرار السوري وطوال عهد الوصاية لم تتمّ زيادة تسليح الجيش لا بالسلاح الروسي ولا بغيره. كان المطلوب أكثر من التسليح تبديل العقيدة القتالية للجيش وإخضاع عدد كبير من ضباطه وعناصره لدورات عسكرية في سوريا، وعندما كان الجيش يحتاج لبعض الذخائر لتنفيذ عمليات أمنية داخلية كان يمكن أن يحصل على عدد من الذخائر وقذائف الدبابات الروسية من سوريا. أكثر من ذلك كان على الجيش أن يتولّى ملاحقة معارضي عهد الوصاية السورية.

 

في جلسات الحوار قبل حرب تموز أيضاً كانت اتخذت مقررات تنصّ على نزع السلاح الفلسطيني من خارج المخيمات. وكان المقصود تحديداً قواعد الجبهة الشعبية القيادة العامة في الناعمة عند ساحل الشوف وفي قوسايا على الحدود اللبنانية السورية في البقاع. ولكن على رغم ذلك عارض “حزب الله” هذه العملية. بعد عام فقط كان السيد حسن نصرالله يعلن أن مخيم نهر البارد خطّ أحمر.

 

شكلت 14 آذار 2005 خطّاً فاصلاً بين زمنين مرّ بهما الجيش. سحب الجيش السوري من لبنان وضع المؤسسة العسكرية أمام تحدّيات كثيرة وأمام مهمات أمنية وعسكرية جديدة لم تكن مطروحة من قبل. الإتهامات بدأت من هناك. طلب من قائد الجيش العماد ميشال سليمان أن يمنع وصول الناس إلى ساحة الشهداء ولكن الجيش ترك الناس يَصِلون. ما حصل في 14 آذار 2005 مع ميشال سليمان يكاد يتكرّر اليوم مع جوزف عون ولكن بفارق واضح.

 

شبه أعزل من السلاح والتدريب خاض الجيش معركة نهر البارد في 20 أيّار 2007. أربعة أشهر من القتال قبل أن يحسم المعركة ويقضي على تنظيم “فتح الإسلام” في المخيم. كان انتصاراً مكلفاً تكبّد خلاله الجيش نحو 171 شهيداً و2000 جريح وخسائر مادية كبيرة بالعتاد، وقد استطاع خلال المعركة أن يطوّر بعض التقنيات العسكرية لكي يتمكّن من الحسم. تلك المعركة فرضت على الجيش أن يبدأ استراتيجية جديدة للإنتقال إلى مستوى آخر من الجهوزية والتنظيم العسكري والتدريب والتسليح. تلك النقلة ما كان ممكناً أن تحصل لولا الدعم الأميركي على رغم أنه خلال المعارك لم يتأمّن مثل هذا الدعم.

 

تلك المعركة التي عادت منها وحدات الجيش وسط احتفاء شعبي كبير على الطرقات لم تكن لتجعل من الجيش قوّة لا يمكن التعرّض لها. أظهرت تلك المعركة أن الجيش قوّة يمكن البناء عليها ويمكن أن تقاتل بغطاء من حكومة كحكومة الرئيس فؤاد السنيورة وأكثرية قوى 14 آذار على رغم معارضة “حزب الله”. لذلك لم يكن من الواضح الهدف من استدراج الجيش إلى مواجهة مع متظاهرين في الضاحية الجنوبية احتجّوا على انقطاع الكهرباء، فسقط عدد من القتلى الأمر الذي اضطرّ القيادة إلى فتح تحقيق داخلي وتوقيف عدد من الضباط والعناصر. ولكن هذا الأمر لم يؤدّ إلى إعادة الجيش إلى ثكناته مثلاً بل إلى المضي في عملية إعادة التسليح والتدريب والتنظيم.

 

تحدّي 7 أيار

 

تحدٍّ آخر واجهه الجيش بقيادة العماد ميشال سليمان في 7 أيار 2008 بعد عام واحد على معارك نهر البارد. هل كان على الجيش أن يصطدم بـ”حزب الله” ويتصدّى للعملية العسكرية التي نفّذها لاحتلال بيروت والشويفات وعاليه والشوف؟ هل كان يستطيع أن يفعل ذلك ويتحمل خطورة الإصطدام عسكرياً مع “حزب الله”؟ القتال ضد “فتح الإسلام” يختلف تماماً عن المواجهة العسكرية مع “حزب الله”. على رغم أن حكومة الرئيس السنيورة، التي كانت المعركة موجّهة ضدّها لإسقاطها، كانت تطلب أن يتدخّل الجيش ولكن الجيش لم يتدخّل. عدم التدخّل قد يكون هو الذي جعل قائد الجيش رئيساً للجمهورية بعد اتفاق الدوحة. صار ميشال سليمان في قصر بعبدا وتولّى العماد جان قهوجي القيادة ليتابع عملية إعادة تنظيم الجيش وتسليحه.

 

علاقة “حزب الله” مع الرئيس سليمان بدأت إيجابية ولكنّها انتهت بقطيعة. قبل انتهاء ولايته خرج الرئيس ليعلن انتهاء عهد “الثلاثية الخشبية” الجيش والشعب والمقاومة. كان الردّ باستهداف القصر الجمهوري بصواريخ لم يتوصّل التحقيق إلى كشف مطلقيها. مع العماد قهوجي تمّ فتح الباب أمام توسيع التعاون مع الإدارة الأميركية التي خصّصت مساعدات سنوية للجيش بالآليات والعتاد والتدريب. ولولا المضي قدماً في هذا البرنامج لما كان الجيش استطاع أن يتصدّى للتنظيمات الإرهابية في معركة فجر الجرود بقيادة العماد جوزف عون. تلك المعركة أظهرت التقدّم الذي أحرزه الجيش على هذا المستوى ولكن على رغم هذا النصر لم يكن هناك أي احتفال به.

 

جوزف عون و17 تشرين

ثورة 17 تشرين وضعت الجيش وقائده أمام تحدّيات كبيرة. كما في 14 آذار 2005 كان المطلوب من قائد الجيش أن يمنع الثورة بالقوة. اتهامات كثيرة وُجِّهت إليه بأنّه مع القيادة تواطأوا مع الثورة وسهّلوا عمليات قطع الطرقات في الأيام الأولى حتى استقالت حكومة الرئيس سعد الحريري، وأنّه لم يبادر إلى فتح الطرق بالقوّة، أو بالإقناع، إلا بعدما تحقّقت تلك الإستقالة. حتّى أن الإتهامات وصلت إلى حد اعتبار أن الجيش مسؤول عن تحريك بعض المجموعات التي تقوم بقطع الطرق.

 

أكثر من ذلك. تمّ اتهام قائد الجيش بأنّه يريد أن يكون رئيساً للجمهورية. الإتهامات أتت من جهات محسوبة على طرفين: “حزب الله” ورئيس الجمهورية والوزير جبران باسيل الطامح إلى هذا المنصب والذي يسخّر العهد والرئيس من أجل تحقيقه.

 

الإنهيار المتسارع للوضع الإقتصادي والمالي ولمؤسّسات الدولة الرسمية وضع الجيش في الواجهة من جديد. فهو ليس إلّا من هذا الشعب. هكذا أطلق العماد جوزف عون الصرخة التي أراد من خلالها أن يحثّ السلطة السياسية على التوصّل إلى حلّ سياسي وتشكيل حكومة تتولّى عملية الإنقاذ، لأنّ الجيش لا يمكنه أن يظلّ منتشراً في الشوارع ومستنفراً بينما يرزح العسكريون والضباط والمؤسسة ككل تحت ثقل الأزمة. ولأن الإنهيار يهدّد مرتكزات الدولة تطوّرت النظرة إلى أهمية دور الجيش بحيث يمكن أن يكون المؤسّسة التي تستطيع منع الإنهيار أو على الأقل المؤسسة التي لا تنهار، إذا انهارت الدولة وتبقى قادرة على حفظ أوصال البلد والنهوض به من جديد.

 

ليست الإدارة الأميركية وحدها التي تدعم الجيش. صحيح أنّها تقدّم له الدعم الأكبر وتوليه اهتماماً خاصّاً ولكنّ الدعم يأتي أيضاً من فرنسا التي تستضيف غداً مؤتمر دعم الجيش اللبناني. عندما زار العماد عون باريس بدعوة رسمية لم يتوانَ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الخائب من تجربته مع الطبقة السياسية الحاكمة عن استقباله. هذا الأمر زاد من الشكوك لدى من يشكّكون في دور الجيش وفي دور قائد الجيش ولذلك زادوا من الهجوم عليه. تكاد لا تمرّ مناسبة إلا ويستغلّونها من أجل التصويب على العماد عون وعلى المؤسسة. انفجار مرفأ بيروت كان إحدى المحطات التي تم استخدامها من أجل اتهام الجيش وقيادته بالتقصير للمطالبة بمحاكمتهم.

 

تدريبات لافتة

 

في المدة الأخيرة سجلت أكثر من عملية تدريب مشترك بين الجيش اللبناني والقوات الإيطالية والفرنسية وقوات اليونيفيل والقوات الأميركية والأردنية… ثمة برنامج يتطوّر ويتابع بغضّ النظر عن وضع الدولة المنهار. وآخر المساعدات تلقّاها الجيش كانت عبارة عن عدد من الشاحنات وسيارات الجيب التي قدمتها الدولة الصينية كهبة. طبعاً لم تعترض الولايات المتحدة على اتجاه الجيش شرقاً من هذه الناحية، بعدما تمّ اتهامه قبل سنوات بأنّه رفض تحت الضغط الأميركي، هبة طائرات ميغ 29 روسية لا يستطيع صيانتها ولا تأمين استمراريتها في الخدمة بسبب الظروف التي يمر بها، والتي تجعله اليوم يحتاج إلى أوراق وإلى محروقات وإلى تصليح الآليات العسكرية، وإلى منع تأثير الأزمة المالية والإقتصادية على وضع ضبّاطه وعناصره، وعلى الإنضباط العام في المؤسّسة التي تنتظرها مهمات أمنية كبيرة في ظل التوقّعات الدائمة بأن الإنهيار قريب.

 

البعض لا يقبل أن يكون الجيش قوياً وضامناً للإستقرار ويريده أن يبقى مجرّد قوة بوليس سرّي تأتمر بأوامره كما كان في ايام الإحتلال السوري. مرة جديدة تعود إلى الواجهة محاولة تثبيت معادلة الجيش الضعيف والمقاومة القوية. ومرة جديدة توجه الإتهامات إلى قائد الجيش وإلى المؤسسة وكأنها جرس إنذار للتنبيه بأنهم يخالفون القواعد وعملية تحذير من مغبة تجاوز خطوط حمر كثيرة لا يجب تجاوزها. ولذلك يتم التركيز على زيارات قائد الجيش وعلى استقبالاته وعلى مناورات الجيش العسكرية وعلى انتشاره على الحدود وتدعيم مراكزه بالتجهيزات اللازمة للمراقبة والرصد. الجيش يرصد المرحلة ولكن هناك من يرصد الجيش ويراقب حركته. ولكن بالنسبة إلى الجيش وقائده غداً يوم آخر ومهمّة جديدة. وإذا كان هناك من يعتبر أن لديه مشكلة مع الجيش فالجيش ليس له مشكلة مع أحد تحت سقف القانون والحفاظ على الأمن.