IMLebanon

معركة تحرير القرار السياسي

 

سلطة تجترح حلولاً من داخل الحدود لمعضلات ماوراء حدوديّة بإمكانها حلّها بشطبة قلم لو أرادت ذلك. وتبرز في هذا السياق مشكلة التهريب عبر المعابر الشرعيّة وغير الشرعيّة بين لبنان وسوريا. ولهذه الغاية تمّ تأسيس أفواج الحدود البريّة في الجيش اللبناني، وتمّ تجهيزها من قبل البريطانيين بأحدث المعدّات. لكنّ هذه المنظومة السياسية القائمة لا توفّر فرصة لتقتنص من قدرات الجيش اللبناني خدمة لمشروعها في هدم الدّولة. وهي التي تسيطر على قراره السياسي، وترفض تحريره ليتمكّن من القيام بمهامه.

 

الملاحظ طوال هذه العقود الثلاثة التي تلت الحرب البغيضة كيف أنّ مَن استلموا مقاليد الحكم، يحاولون دائماً إظهار الجيش اللبناني بموقع القاصر أو الضعيف لأنّهم يسيطرون على قراره السياسي. بدأت المسألة في مواجهة العدوّ الاسرائيلي حتّى نجحت المنظومة بتسليم هذه المهمّة بالكامل إلى “حزب الله”. ولعلّ هذه المسألة كانت الأبرز، وهي التي سمحت لـ”الحزب” بامتلاك قدرات تفوق تلك التي تمتلكها الدّولة ككلّ أحياناً. وما إن انتهينا من مسألة الاحتلال الاسرائيلي في العام 2000 حتّى تمّ ابتداع قضيّة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، ونجحت هذه المنظومة عينها بربط النّزاع فيها مع العدوّ مجدّداً، ما سمح لـ”حزب الله” باستثمار وجوديّته المقاوِمَة.

 

وتجدر الاشارة إلى أنّ القدرة العسكريّة التي يمتلكها الجيش تنمّ عن احترافيّة في العمل العسكري بشهادة معظم الدّول التي تساعده، وأبرزها الولايات المتّحدة الأميركيّة وفرنسا. وبرغم الظروف الاقتصاديّة المزرية التي أوصلت إليها البلاد هذه المنظومة السياسيّة، ما زالت المؤتمرات الدّوليّة لمساعدة الجيش تُعقَدُ، وتنفّذُ قراراتها كلّها. وهذا فعل إيمان بالعمل المؤسّساتي. وهذا بالضّبط ما تحاول إبطاله هذه المنظومة السياسيّة. وإن دلّ ذلك على شيء فهو يدلّ على أنّها مزمعة على هدم مؤسّسات الدّولة كلّها، لتتمكّن من فرض أجندتها الأيديولوجيّة، بدءاً من الاقتصاد ومروراً بالتربية وليس انتهاءً بالهويّة الكيانيّة.

 

فعلى ما يبدو أنّ مشروع توأمة السلاح والفساد من العام 2006 حتّى اليوم قد تقدّم كثيراً عن الحال التي كان فيها آنذاك. لقد نجح “حزب الله” بتكوين منظومة سياسيّة وإدارتها بتقيّته الأيديولوجيّة، مكّنته من فرض مخطّطاته جميعها. واعتقدت هذه المنظومة أنّها لن تواجه أيّ معارضة. لكنّ القوى السياديّة التي لم تدخل في تسويات مع المنظومة من الدوحة في العام 2008 وحتّى اليوم، نجحت بكبح جماحها السلطوي، وحدّت من مشروعها في القضاء على الدّولة.

 

لذلك كلّه، سمحت هذه المنظومة بأخذ البلاد إلى الانهيار التّام تمهيداً للسيطرة التّامة، حتّى لو كلّفها هذا الأمر إفلاس المواطنين جميعهم من خلال عمليّة سطو ممنهجة على الاحتياطي الالزامي، أي ودائع النّاس بحجّة تأمين الكهرباء والبطاقة التمويليّة – ذات الأهداف الانتخابيّة ضمناً- والمحروقات. ومن ابتداعاتها للحدّ من التهريب الممنهج والمنظّم الذي تديره هي نفسها بوساطة عصاباتها التي تلتحف بغطاء السلاح غير الشرعي، قامت برفع سعر صفيحة البنزين تحت حجّة الحدّ من التهريب.

 

هذا كلّه كي لا تعطي القرار السياسي للجيش اللبناني في عمليّة ضبط الحدود. لقد بات واضحاً أنّنا اليوم بأمسّ الحاجة إلى حرب تحرير جديدة سياسيّة مع هذه المنظومة، شرط ألا تنتهي بهريبة بيجاماتيّة إلى سفارة ما، لنستطيع تحرير القرار السياسي من ربقة السلاح غير الشرعي. عندها فقط تستقيم الأمور. فتستعيد الدّولة سيادتها الكاملة. تلك السيادة التي باتت على القطعة حيث تفتح الحدود للمقاتلين من لبنان إلى سوريا والعراق واليمن، من دون اغفال الذهاب إلى إيران بحجّة التعليم الدّيني للخضوع لدورات عسكريّة قتاليّة. ذلك كلّه جعل من لبنان ساحة مستباحة، مكّن هذه المنظومة من السيطرة على قراري الحرب والسلم في الدّولة، فأفقدتها سيادتها بالكامل.

 

الحلّ في لبنان لا يكون بتغيير النّظام نحو مثالثة ما، أو فدرلة الدّولة، أو حتّى تقسيمها، بل الحلّ يكون أوّلاً باستعادة السيادة الكاملة، وتحرير القرار السياسي من سيطرة السلاح عليه، وصولاً إلى تحرير الجيش الوطني سياسيّاً، ووضع قراره بيد الحكومة مجتمعة، كما ينصّ عليه الدّستور اللبناني. وذلك لا يكون إلا بالتّخلّص من هذه المنظومة الفاسدة القائمة على حماية الفساد بقوّة السلاح، تحقيقاً للأجندة الأيديولوجيّة التي تريد القضاء على الكيانيّة اللبنانيّة.

 

وذلك لن يتمّ بانقلاب لا عسكريّ ولا ثورويّ كما يحاول الإيحاء بعض مَن يدور في فلك هذه المنظومة. السبيل الوحيد والمتاح بحسب الأعراف السياسيّة كلّها هو بالانتخابات النيابيّة التي وحدها تستطيع أن تنتج سلطة جديدة. ولا يراهننّ أحد على إعادة إنتاج هذه السلطة نفسها بنفسها، لأنّ المزاج الشعبي قد تغيّر كليّاً بعدما انكشفت على حقيقتها. ولحظة الحرّيّة التي ستطيح بهذه المنظومة آتية لا محالة. وبعدها الانتخابات التي لن تكون إلا بإشراف أممي مباشر. لأنّ الثقة مفقودة نتيجة للتجارب السابقة. فهل سينجح الناس في ما فشلت بتحقيقه القوى السياسيّة؟