في الأشهر الأخيرة، تصاعد الاهتمام بموقع الجيش ودوره في المأزق الحالي، في شكل غير مسبوق، حتى إنّ البعض طرح مجدداً سؤالاً قديماً: هل الجيش هو الحلّ؟ ولكن، وسط هذا الضجيج، هناك سؤال أساسي، وهو يستدعي إجابات عميقة وصادقة: هل يحظى الجيش اللبناني فعلاً بدعم السلطة السياسية كما هي الحال في دول العالم المتحضّرة؟ إذا كان الجواب «نعم»، فما حدود هذا الدعم وطبيعته؟ أما إذا كان «لا»، فالمشكلة أخطر بكثير ممّا يمكن التصوّر.
في غالبية الدول – الأنظمة في الشرق الأوسط والعالم العربي، الجيش هو أداة النظام، بل هو النظام في حد ذاته. وميزةُ لبنان أنه ليس دولةً – نظاماً (نسبياً وحتى الآن على الأقلّ). كما أنّ جيشَه ليس جيش النظام (أيضاً، نسبياً وحتى الآن على الأقلّ).
ووفقاً للدستور والقوانين والأعراف، في دول العالم المتقدِّم، الجيش لا يلتزم مواقف سياسية، لا مؤيِّدة للسلطة ولا مُعارِضة لها، بل يلتزم الضوابط المهنيّة لا أكثر. و»مِهنَة الجيش» هي أن يكون ذراع الحمايةِ للوطن، دفاعاً عن حدوده وأمنه واستقراره. لكنه في النهاية يتلقّى توجيهات السلطة السياسية، أيّاً تكن هذه السلطة، ضمن ضوابط الانتظام داخل المؤسسات وحدودها.
ولكن أيضاً، في الدول المتقدمة القائمة على المؤسسات، يكون الولاء للوطن والدولة هو أولوية القوى السياسية كلها، وتكون السلطة منبثقة فعلاً من الشعب وتمثِّله في شكل دقيق، ويسود القانون، ويطبَّق الدستور بدقّة، ويجري تداول السلطة بسهولة، وتُعتَمد الشفافية والرقابة والمحاسبة. ولذلك، تكون العلاقة طبيعية وآمنة داخل مثلث: السلطة- الجيش- الشعب.
ولكن، في لبنان هناك مشكلة تزداد تفاقماً. فالسلطة تديرها قوى متنافرة الولاء لقوى خارجية، وقد أثبتت التطورات منذ عامين على الأقل أنها لم تعد تمثّل الرأي العام. ولذلك، هي تحتفظ لنفسها بالسيطرة على الانتخابات النيابية وقانونها، وعلى أي حكومة ستولد.
وفي المأزق الذي أوصلت نفسها إليه ووضعية الانهيار الشامل، تحاول هذه القوى استخدام كل الأوراق المتاحة لحماية نفسها، بما في ذلك المؤسسات الإدارية والمرافق والمصرف المركزي، والمؤسسات الأمنية والعسكرية.
واستطاعت قوى السلطة تجيير غالبية المؤسسات والمرافق لخدمتها. ولكنها حتى اليوم لم تنجح في «استيعاب» الجيش ليصبح واحدةً من أوراق قوتها. فهو حتى اليوم يبقى في الوضعية الأقرب إلى الاستقلال، ويقاوم الانزلاق بالبلد نحو التحوُّل «دولة- نظاماً»، كما بلدان أخرى في المنطقة.
لكن المواجهة مستمرة. وفي الفترة الأخيرة، ارتفعت حدة التجاذب بين منطق «النظام» ومنطق «الدولة»، في موازاة استشراس القوى السياسية في الدفاع عن رأسها.
فهل سيتمكن الجيش من الحفاظ على معاييره المهنيّة في التعاطي ضمن مثلث السلطة- الجيش- الشعب، أم سيُدفَع إلى التخلّي عنها، تحت ضغط قوى السلطة وسعيها إلى فرض الخيارات بالقوة، أي القمع؟
التدقيق في مسار التطورات، خصوصاً منذ 17 تشرين الأول 2019، يشير إلى «كباش» عميق بين الاتجاهين. وفي الشارع، يقاوم الجيش أي انحراف سلطوي ويحافظ على توازن دوره كضمانة للدولة والشعب في آن معاً. ويبدو مثيراً أن يكون العسكر أكثر حرصاً على الممارسة الديموقراطية والحريات، فيما القوى السياسية تعمل لتثبيت «الستاتيكو» الشاذّ، ولو بالقوة.
هذا الاتجاه لدى الجيش يعمّق تعاطفه مع الشعب، فيزداد ويترسّخ لاحقاً، فيما يتّسع التنافر والهوّة داخل ثنائية الجيش- قوى السلطة. وهذا واضح في الحملات المبرمجة التي تشنها ماكينات هذه القوى على الجيش، وتزداد شراسة تحت عناوين مختلفة.
لذلك، يبدو كلام الدعم الذي يعلنه بعض قوى السلطة مجرد مناورة لا بدّ منها. ويخشى المطلعون القول إن هذه القوى، بغالبيتها، تنظر إلى المؤسسات العسكرية والأمنية، كما سائر المؤسسات والمرافق، وفق معادلة الربح والخسارة لا وفق مصلحة الدولة. فهي تدعم الجيش والقوى الأمنية ضمن حدود عدم المسّ بنفوذها وهوامش حركتها، لا أكثر.
وهذا الأمر خطِر جداً، لأنه يرسِّخ توزيع البلد على مناطق نفوذ، ويترك الجيش والقوى الأمنية تحت سقف قوة محدّد ومحدود، فيما قوى السلطة تتمتع بهوامش حركة واسعة.
وعملياً، هذا التجاذب داخل ثلاثي السلطة- الجيش- الشعب هو الذي سيحدّد مستقبل لبنان: فإما أن يكون دولة المؤسسات الفاعلة والشفافية وفصل السلطات أو يكون نظاماً آخر داخل فسيفساء الأنظمة العربية والشرق أوسطية؟
وهذا الخيار الثاني، إذا أتيح له أن يرى النور، سيعني دخول البلد في نفق لا خروج منه على الإطلاق. وعلى الأرجح، سيقضي على الفكرة اللبنانية من أساسها وسقوط لبنان ككيان.
وطبيعة الجيش التي ستكون هي نفسها طبيعة البلد الذي سيكون، في النهاية. وبالتأكيد، يدرك الجيش، ومعه الشعب، أن الدفاع عن لبنان هو الفلسفة الوحيدة التي تستأهِل التضحيات، وأنّ ذلك يفرض عليه عدم التنازل.