أيّام قليلة تفصلنا عن المئوية الأولى لنشوء الكلية الحربية عام 1921، حيث تمّ إنشاء المدرسة الحربية في دمشق، لإعداد وتدريب وتخريج ضبّاط لزوم الوحدات الجديدة. وفي العام 1932 إنتقلت الكلية الحربية إلى حمص.
وفي تاريخ 15 آب 1945 إنتقلت الكلية الحربية إلى ثكنة القبة في طرابلس، وفي 25 أيلول من العام نفسه إنتقلت إلى دير مار أنطونيوس في بعبدا. وبالختام وفي 14 تشرين الثاني 1946 إنتقلت إلى ثكنة شكري غانم في الفيّاضية، ولمّا تزل هناك حتى تاريخه، مقلعاً للرجال، مدرسةً للوطنية، شعارها المعرفة والتضحية، في مدرسة عنوانها: شرف تضحية وفاء.
لا زلت أذكر، ومنذ أن كنت يافعا، العروض العسكرية والتي كنت أتابعها في كلّ عيد إستقلال، أمام شاشة التلفاز. حيث كان رئيس الدولة وأركانها يستعرضون القوى العسكرية، وكنّا ننتظر في ختام العرض، وبلهفةٍ مرور «المغاوير» ببذلاتهم المُرقّطة، وعلى موسيقاهم الخاصة، وبخطوات رياضية ملفتة. وما زال دعاء أمّي لهم في ذاكرتي «الله يحميهم ويحمي الجيش».
نعم أيّها السادة، علاقتنا مع الجيش عمرها من عمر لبنان.
وما يشعر به كل مواطن تجاه جيشه، لا يشعره تجاه أيّ كان.
لست اليوم في وارد الإشادة بهذه المؤسسة، لأنها ليست في حاجة إلى إشادة أو تقدير، كونها تسكن في قلب كل لبناني صالح، يؤمن بوطنه وبجيشه وبمؤسساته.
ولكن ما جعلني أتطرّق اليوم إلى موضوع الجيش اللبناني، شعوري بالغضب لما آلت إليه أوضاع المؤسسة.
فالإنتساب إلى المؤسسة وبالنسبة إلى الأكثرية، كان ولمّا يزل شرفاً ووفاء. ودفاعنا عنها اليوم نعتبره واجبا مُقدّسا. فلا يجب أن نترك الجيش وحيدا، يتخبّط بمِحَنه، وكأنّ شيئا لم يكن.
كيف يمكن لنا أن نقبل، أن يُصبح راتب الجندي لا يتجاوز الخمسين دولارا أميركيا شهريا، وهو ربّ عائلة، وعليه موجبات ومترتّبات؟
فكيف لنا أن نطلب من هذا الجندي أن يقوم بواجبه في الدفاع عن الوطن، فيما الوطن يتهرّب من موجباته تجاهه؟
إنّ موظّفي القطاع العام، والروابط والهيئات، باستطاعتها أن تعلن الإضراب للإستحصال على حقوقها. فيما الجيش ليس باستطاعته إعلان الإضراب والتوقّف عن مهامه. فهل لأن المؤسسة تلتزم قَسَمها وتقوم بكامل واجبها، تتعامل معها الدولة بكلّ هذا الإهمال؟
فليعلم الكافة، لن نقبل، ولن يقبل أي مواطن شريف ان يُذلّ جيشه. ففي مقابل تكليفه مهماته ومهمات سواه، فلنعمل على إنصافه ولو بالحّد الأدنى.
هل تعلمون يا سادة، أن راتب الضابط الشهري في المؤسسة لم يعد يساوي مئة وخمسين دولارا أميركيا لا غير؟
فعن أي جيش تتكلّمون، وعديده بات على شفير الإفلاس الفعلي؟
من حَسَنات القدر أنّ العماد جوزف عون يتبوّأ اليوم سُدّة القيادة. فذلك القائد لم يوفّر جهدا إلاّ وبذله بِغرض تحسين أوضاع مؤسسته وعديده. فقصد عواصم غربية، وتمكّن من تأمين الحد الأدنى من المتطلّبات لجيشه مشكورا، وكان القائد الحكيم والمغوار. وحتى تاريخه لا يوفّر جهدا إلّا ويبذله تجاه وطنه وأبناء مؤسسته. لكن هذه مسؤولية الحكومة، مسؤولية الدولة، فحرام علينا أن نترك جيشنا جائعا، وأن نتهرّب من مسؤولياتنا تجاهه.
فيا أيُّها الحُكّام اعلموا:
– إن مؤسسة الجيش، كذلك مؤسساتنا الأمنية كافة، خطّ أحمر. فلا يجوز لنا أن نسمح لها بأن تجوع أو تفقر.
– لا يجوز أن نسمح لمن نذر نفسه للقيام بواجبه، حفاظا على علم بلاده، وزَوْدا عن وطنه، لا يجوز أن نسمح له أن يُذلّ.
– لا يجوز أن نتهرّب من مسؤوليّاتنا تجاههم، فالجيش اللبناني والمؤسسات الأمنية هي درع الوطن وملاذ المواطن.
قائد الجيش قام بما عليه مشكورا، ولم ولن يوفّر جهدا بهذا الشأن، لكن هذه مسؤولية الحكومة ومسؤولية كل حاكم شجاع.
فعوض التلزيمات المشبوهة، فلنذهب إلى الإستثمارات المضمونة. فالرّهان على الجيش يبقى الضمان، هذا إذا صَفَتْ النيات، وكنتم أيّها الحكّام مُراهنين بصدق عليه.
لا تتركوا الهيكل ينهار، فإن انهار الجيش انهار لبنان، ووقع المحظور. عندها لن ينفع الندم، وسيكون السيف قد سبق العدل، والسلام.