كانت التوقعات تنبئ بأنّ الشارع اللبناني سينفجر حالما يقترب لبنان من مرحلة الأمان الصحي إزاء وباء كورونا. الدراسات العديدة التي اجرتها اطراف داخلية وخارجية خلال مرحلة الحَجر الصحي، والتي استندت الى استطلاعات رأي دقيقة وعلمية، اظهرت ارتفاعاً متزايداً لشريحة الناقمين قياساً الى نهاية العام الماضي، بسبب ازدياد نسبة العاطلين من العمل وارتفاع سعر صرف الدولار، ما جعل نسبة الفقر تلامس الـ 45 في المئة.
لكن في المقابل، كان هنالك رأي لدى بعض اطراف الطبقة السياسية الحاكمة، بأنّ ما حصل في 17 تشرين كان لحظة تاريخية غير قابلة للتكرار. ولكن ما حدث انّ الناس عادت الى الشارع تحت وطأة الفقر والجوع وانهيار سعر صرف الليرة اللبنانية. لكنّ الحراك هذه المرة حمل في طياته بعض الرسائل المشفّرة، من خلال مجموعات اندسّت بين المتظاهرين، لتقوم بتوجيه رسائل امنية جرى التحضير لها بعناية مسبقاً. ذلك أنّه فجأة ومن دون تدرّج في تصاعد الحماوة، بدأ القاء قنابل المولوتوف على فروع المصارف في صيدا وتلاه فوراً هجمات مماثلة في طرابلس.
صحيح انّ قنابل المولوتوف هي عبارة عن عبوات يمكن لأي شخص صناعتها واستخدامها، لكن المجموعات التي نفّذت الاعتداءات في صيدا كانت رؤوسها مغطاة، وهي أخفت ايضاً العلامات الفارقة الممكن اكتشافها، من خلال الاستعانة بكاميرات المراقبة. لكن التحقيقات الاولية للأجهزة الامنية اللبنانية اشتبهت بمجموعات تنتمي الى جناح يساري.
وفي طرابلس كانت المسألة أشدّ خطورة. فالتجمع بدأ ليل الاثنين الماضي في ساحة النور، تحت رقابة وحماية الجيش اللبناني، ثم انطلقت تظاهرة باتجاه منزل الوزير السابق فيصل كرامي بمواكبة الجيش، حيث حصلت احتكاكات بسبب منع الجيش بعض المتظاهرين من القيام ببعض الاعتداءات، قبل ان تنعطف التظاهرة باتجاه شارع المصارف، حيث جرى استهداف العديد من المصارف. صحيح انّ عبوات المولوتوف كانت ايضاً جاهزة للرمي من قِبل بعض الملثمين على طريقة ما حصل في صيدا، إلّا أنّ الاخطر كان برمي قنبلة يدوية باتجاه آلية للجيش اللبناني، ما تسبّب بسقوط اربعة جرحى. وتبع ذلك اطلاق نار وردّ بالمثل من قِبل الجيش اللبناني. هذه المعطيات أرسلت اشارات قلق لدى العديد من المراقبين، وفي طليعتهم السفارة الاميركية، ذلك أنّ الجيش الذي كان ولا يزال منذ انطلاق الحراك الشعبي ملتزماً بحماية المتظاهرين السلميين وهم الاكثرية الساحقة، بدا وكأنّ هنالك من يسعى لاستهدافه امنياً لغايات ليست بريئة.
قيادة الجيش كانت قد وضعت جملة التزامات عمّمتها على وحداتها، كمثل حماية المتظاهرين وتأمين سلامتهم وحرّية التعبير عن رأيهم. لكن الى جانب ذلك ضمان حماية الاملاك العامة والخاصة وتأمين سلامة الناس وحرية التنقل.
خلال شهر كانون الاول الماضي، وتحديداً مع ظهور اتجاه لتكليف الرئيس سعد الحريري بتشكيل الحكومة ومن ثم الذهاب لتكليف حسان دياب، حصلت مواجهات عنيفة في وسط بيروت بالقرب من مجلس النواب، كانت بعض العناصر المشاركة مختلفة كلياً عن السواد الاعظم للمتظاهرين، لكن وجوه هؤلاء كانت مكشوفة، ما سهّل التعرّف اليهم والتعامل مع الوضع. اما اليوم فأصبحت الاعتداءات اكثر احترافية وخطورة.
يكفي انّ نشير الى اصابة 81 عسكرياً بجروح، منهم 50 في طرابلس وحدها، لتبيان خطورة ما كان يحصل. القوى السياسية في لبنان على مختلف اتجاهاتها تجمع على انّ ما حصل في صيدا وطرابلس لا يمكن وضعه في الاطار البريء. فثمة رسالة يُراد توجيهها.
الرسالة تبدو في ظاهرها موجّهة للمصارف ولكنها فعلياً تذهب باتجاه الجيش اللبناني والاستقرار العام. والصورة تصبح اوضح حين نرى التآكل الذي اصاب مؤسسات الدولة اللبنانية وانعدام هيبتها، باستثناء الجيش الذي يمنع تفتت لبنان وانزلاقه باتجاه الفوضى الشاملة. ومعه، هل يسعى بعض المندسين للدفع باتجاه الفوضى العارمة؟
تبقى معرفة هوية هذه المجموعات، والطرف الذي يقف خلفها.
وخلافاً للتسريبات الحاصلة، فإنّ «حزب الله» من اكثر المتضررين في حال ذهاب الوضع الى الفوضى الشاملة. فهذا يناقض مصلحته التي تقضي بحماية بيئته من مخاطر امنية تضاف الى المخاطر المالية والاقتصادية التي يعيشها، وسط صراعه الاقليمي الكبير والعنيف. ومصلحته تقضي بالحفاظ على المظلة التي تحمي وجوده، وهو ما يفسّر سعيه سابقاً لتأمين تشكيل الحكومة ولو برئاسة سعد الحريري وتأمين حماية حكومة حسان دياب.
ووجهة النظر هذه مقتنع بها العديد من العواصم الغربية وفي طليعتها واشنطن وباريس، اضافة الى العديد من القوى الداخلية، من بينها قوى كانت في14 آذار .
البعض الآخر يعتقد انّ دوافع تفجيرات صيدا مختلفة عمّا حصل في طرابلس. ففي صيدا قد تكون المسألة OVERDOSE او مبالغة مفرطة في التعبير. اي بما معناه من دون خلفية امنية كبيرة، وهذا ما تميل السفارات الغربية للاقتناع به. أما في طرابلس فالمسألة اكثر تعقيداً، مع وجوب تحليل المعطيات اكثر، والاستماع الى الاعترافات عند اعتقال المشتبه فيهم.
لذلك اصدرت السفارة الاميركية بياناً جاء فيه: «… حوادث العنف والتهديد وتدمير الممتلكات مقلقة للغاية ويجب التوقف عنها». هي لهجة نادرة لبيانات السفارة الاميركية.
مقابل ذلك، كان القلق من احداث امنية يجري التدبير لها قد جرى مناقشته في الاجتماع الاخير لمجلس الدفاع الاعلى. يومها عرض قائد الجيش العماد جوزف عون المعطيات التي يملكها، ومبدياً تخوفه من وجود نوايا امنية غير سليمة. لكن المعالجة لا تكون فقط امنية، لذلك وجد وزير الخارجية الفرنسية جان ايف لودريان وقتاً للاتصال برئيس الحكومة حسان دياب، وكذلك وزير المال الفرنسي، بنظيره اللبناني غازي وزنة. والرسالة الفرنسية كانت واضحة، بأنّ فرنسا لن تتخلّى عن لبنان ولن تتركه يسقط في المخاطر، وانّها ستدعمه بقوة في المحافل الدولية، وهي قادرة على تأمين الدعم الدولي المطلوب لإعادة انعاشه اقتصادياً.
وشدّد وزيرا الخارجية والمالية الفرنسيان على انّ «سيدر» لا يزال على «قيد الحياة» رغم ازمة الركود الاقتصادي اوروبياً وعالمياً بسبب كورونا. لكن على لبنان إنجاز الخطة الاقتصادية بأسرع وقت ممكن وإنجاز الاصلاحات التي طالما جرى الحديث عنها، والتي باتت معروفة.
واضاف الوزيران، انّ فرنسا مستعدة ايضاً لمساعدة لبنان مع صندوق النقد الدولي.
في المقابل، فإنّ الرئيس دياب، والذي شعر للمرة الاولى باهتمام فرنسي واميركي بحكومته، سيسعى لإقرار الخطة الاقتصادية في اجتماع مجلس الوزراء الذي سيُعقد اليوم.
كذلك فُهم بأنّ حاكم مصرف لبنان، الذي نفذ مطالعة مالية دفاعية مدروسة، سيعمد الى إيجاد طريقة لتفعيل موضوع النقد وإيجاد السيولة من خلال المصارف، ما يساعد في لجم ارتفاع الدولار، لأنّ ضخ العملة الخضراء في الاسواق بوجه الصرافين، سيعني تسرّب الدولار بسرعة الى خارج الحدود اللبنانية، وتكون المعالجة على طريقة ملء السلة بالمياه.