في 23 تمّوز، دعت قيادة الجيش اللبناني الى حضور الإحتفال المركزي الذي ستقيمه في الأول من آب في الكلية الحربية في الفيّاضية، لتخريج تلامذة ضباط السنة الثالثة في الذكرى الـ75 لتأسيسه، والذي كان سيرأسه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون. بعد خمسة أيام، أعلنت إلغاء الإحتفال نظراً للظروف الإستثنائية المُتعلّقة بتفشّي وباء “كورونا”. يحصل ذلك بينما يواجه الجيش أخطاراً أكبر من هذا الوباء. فالجيش الذي أتقن النظام المرصوص يتحرّك في ظلّ نظام غير مرصوص. في العام الماضي في ذكرى عيد الإستقلال في 23 تشرين الثاني، بعد شهر تقريباً على بدء ثورة 17 تشرين، تمّ إلغاء العرض العسكري الذي يُقام كل عام في المناسبة في وسط بيروت، الذي كان أصبح مخيّماً لمكوّنات كثيرة من مكوّنات الثورة، وتمّت الإستعاضة عنه باحتفال أقيم في وزارة الدفاع، بينما كان بعض أركان السلطة يُشكّك في الدور الذي يقوم به الجيش اللبناني، مُتّهماً قيادته بالتساهل في عدم قمع الإنتفاضة الشعبية ومنع قطع الطرقات. كان الجيش يمثّل المؤسسة التي تحظى بالإجماع على دورها في حماية السلم الأهلي وفي حراسة الثورة والدولة معاً، وهذا الأمر كان أكّد عليه قائد الجيش أكثر من مرّة، مُحدّداً المعايير الأمنية التي يتحرّك على ضوئها، ردّاً على التهم التي استهدفته.
حماية الصيغة اللبنانية
في أمر اليوم الذي وجّهه العماد جوزف عون إلى الجيش في 29 تموز، أعلن “أنّ الذكرى الـ 75 لعيد الجيش تحلُّ ولبنان يمرُّ بأزماتٍ سياسية واقتصادية واجتماعية غيرِ مسبوقة، أثقلتْ كاهلَ اللبنانيين، وأرختْ ظِلالاً من الخوف والقلق على المستقبل والكيان. وفي خضمِّ المحاولاتِ المبذولة لإنقاذ وطننا وإخراجه من مُعاناته، تبقى الأنظارُ شاخصة نحو الجيش. هذه المؤسّسة الوطنية الجامعة التي تعملُ بِصَمْت، وتواجِه بشرف، وتُضحّي بوفاءٍ بلا حدود، لا تكسِرُها عواصف، ولا تُزعزعها صعاب”. وأضاف: “لطالما شكّلتْ مؤسّستُكم في أحلك الظروف وأقساها، نقطةَ الإلتقاء بين اللبنانيين على اختلاف طوائفهم ومناطقهم، وجسرَ العبور إلى شاطئ الأمن والأمان. فالجيش يقف على مسافةٍ واحدةٍ من الجميع، بعيداً من الفئوية الضيّقة، ويحمي الصيغة اللبنانية الفريدة القائمة على العيش المشترك، كما يؤدّي واجبه بأمانة وإخلاص وحزم على امتداد الوطن. وهو سيبقى محطةَ التقاء جميع اللبنانيين، وسيقف بمواجهة أيّ محاولاتٍ للعبث بالإستقرار والسلم الأهلي، وأيّ إخلال بالأمن، أو ضرب صيغة العيش المشترك”. هل يستطيع الجيش أن يقوم بكلّ هذه المهام المطلوبة منه، في ظلّ التفكّك السياسي والإنهيار الإقتصادي، وبينما يسأل رئيس الحكومة الدكتور حسّان دياب عن الأجهزة الأمنية وعدم قيامها بواجباتها ويتّهمها بالتقصير، مُتسائلاً عن سبب القدرة على فرض الأمن في منطقة، والعجز عن ذلك في منطقة أخرى؟ لعلّ الجيش في هذه المرحلة يتمتّع بما لم يتوفر له كثيراً في المراحل السابقة منذ تأسيسه قبل 75 عاماً. الإختلاف عليه وعلى دوره أدّى سابقاً إلى تشتيته وحدات وأفواج، توزّعت الولاءات الطائفية والمناطقية، وأدّت إلى عدم قيامه بدور حماية السلم الأهلي وصيانة العيش المشترك والصيغة اللبنانية، كما قال قائده العماد جوزف عون. ولكنّ اليوم، من اللافت أنّ الجيش لا يزال يقوم بهذا الدور، بالرغم من ضياع القرار السياسي، وكأنّه وحده يُعوّض هذا الغياب، وكأنه يعمل بتفويض من حاجة الناس إلى دوره، أكثر ممّا يعمل تحت توجيهات السلطة السياسية، إلى حدّ اعتبار انه لا يوجد قرار سياسي، خصوصاً عندما يصدر مثل هذا الكلام عن رئيس الحكومة.
معمودية الدمّ
في عدد مجلة “الجيش” لشهر تموز، استعراض لتاريخ الجيش منذ معركة المالكية “أولى معموديات الدمّ ما بين 5/ 15 و6/6 من العام 1984، التي خاض الجيش اللبناني وهو لم يزل فتيّاً، ثلاث معارك ضارية ضدّ قوات العدوّ الإسرائيلي التي أقدمت على احتلال بلدة المالكية – شمال فلسطين (البلدة الواقعة على مسافة نصف كلم من الحدود اللبنانية – الفلسطينية)، فتمكّن من تحريرها وتسليمها إلى جيش الإنقاذ العربي (الذي شُكّل في حينه للدفاع عن فلسطين)، مُكبّداً العدو خسائر فادحة. استشهد في معركة المالكية النقيب محمد زغيب إلى جانب 8 عسكريين”. وفي العدد أيضاً، تذكير “بمواجهات بين بيت ياحون وتبنين وكفرا وياطر، في العام 1972، التي سجّل فيها الجيش في 16 و17 أيلول انتصارات مُذهلة بوجه العدو الإسرائيلي.
دفع الجيش آنذاك ضريبة الدم في دفاعه عن أرضه، مُقدّماً تسعة عشر شهيداً وستة وأربعين جريحاً، لكنّه في المقابل لقّن العدو درساً في البطولة، إذ دمّرت دبّابة واحدة له سبع دبابات للجيش المُعادي، وظلّت تُقاتل حتى نفاد الذخيرة منها، بالرغم من كثافة الطيران المعادي”. تلك المواجهات في زمن مضى، تعكِس الدور الذي كان يقوم به الجيش على الحدود الجنوبية، بينما اليوم تغيب الحكومة عن مُجمل التطورات الأمنية التي تحصل في الجنوب، وتنتظر البيانات التي يصدرها “حزب الله”. كأنّ المطلوب اليوم لتأمين حماية لبنان، عودة دور الجيش إلى ما كان عليه قبل خمسين عاماً. عندما غاب ذلك الدور لمصلحة المنظّمات الفلسطينية بعد العام 1969 تعرض لبنان للخطر وحصل اجتياحان إسرائيليان في العام 1978 ثم في العام 1982. وعندما أمسك “حزب الله” بالأمن على تلك الحدود وبالمواجهة مع العدو الإسرائيلي، حصلت حروب تموز 1993 ونيسان 1996 وتموز 2006 بعد ستة أعوام على انسحاب الجيش الإسرائيلي في 25 أيار من العام 2000.
سلاح الجيش الأهم
يُحكى كثيراً عن أنّ الجيش اللبناني لا يستطيع بقدراته الذاتية أن يؤمّن حماية لبنان، وأنّ سلاح “حزب الله” وصواريخه هي التي تؤمّن قوة الردع. دائماً كان هناك تشكيك بقدرة الجيش. هل المطلوب من هذا الجيش أن يقوم اليوم بما عجزت عنه الجيوش العربية مُجتمعة منذ العام 1948؟ وهل المطلوب أن يُصبح هذا الجيش بمستوى الجيش الإسرائيلي، عديداً وتسليحاً وتجهيزاً، حتى يُصبح وحده المُخوَّل حفظ الأمن في لبنان وحماية لبنان؟ وهل الحماية عسكرية، أم سياسية ودولية؟ وهل التوازن يُحقّقه السلاح وحده؟ وبماذا يختلف القرار 1701 اليوم عن اتفاق الهدنة الذي أعقب حرب 1948؟ ولماذا لم يحصل أي اجتياح إسرائيلي أو غارات برّية وجوّية إلا بعدما أصبح لبنان ساحة مُباحة للعمليات ضدّ إسرائيل؟ ولماذا كان الجيش قادراً على صدّ الإعتداءات الإسرائيلية قبل العام 1975، وصار عاجزاً بعدها، وكيف يُمكن فهم أنّ هذا الجيش الذي كان في العام 1972 يتصدّى للجيش الإسرائيلي، تحوّل إلى الدفاع عن نفسه في بيروت ضدّ المسلحين الفلسطينيين قبل أن ينقسم في مطلع العام 1976؟ في العام 1977 مع الرئيس الياس سركيس، أُعيد توحيد الجيش اللبناني. ولكن هذا الجيش عاد وانقسم في العام 1983، ثمّ أُعيد توحيده في العام 1990 ليخضع لعهد الوصاية السورية أمنياً وعسكرياً. اليوم بعد 15 عاماً على خروج الجيش السوري من لبنان، يحظى الجيش اللبناني بإجماع على دوره في الحِفاظ على الوحدة الداخلية، وهو أهمّ سلاح يمتلكه، وثمّة رهان على هذا الدور ولا يخرج عن هذا الإجماع إلا “حزب الله” الذي يُريد أن يحتفظ بسلاحه ويُعطيه الأفضلية على سلاح الجيش اللبناني، وتبقى لديه استراتيجيته ومخطّطاته التي تتعدّى لبنان إلى المنطقة والعالم.
عدم إقامة احتفال تخريج ضبّاط السنة الثالثة في المدرسة الحربية في الفياضية، لا يعني أبداً غياب الجيش عن القيام بدوره. وإذا كان الجيش ضحيّة الصراعات الداخلية أكثر من مرّة في السابق، فإنّه اليوم يُمكن أن يكون المُنقذ من هذه الصراعات، لأنّه استطاع أن يفرض النظام المرصوص داخل هيكليته في غياب هذا النظام لدى السلطة السياسية، التي عليها أن تُحصّنه وتحمي دوره. ويبقى أنّ هذا الجيش هو الوحيد الذي استطاع أن يجتاز الحدود الجنوبية في اتجاه فلسطين، وأنّه وحده الذي استطاع أن يحمي هذه الحدود طوال ثلاثين عاماً.