1 آب 2023 و11 كانون الثاني 2024
أول آب المقبل لن يكون هناك أي احتفال عسكري للجيش اللبناني، لا في المدرسة الحربية في ثكنة الفيّاضية لتخريج الضباط كما في كل عام، ولا في الثكنات الأخرى. ستمرّ الذكرى حزينة في ظل الفراغ الذي يتمدّد في كل المؤسسات ويهدّد قيادة الجيش الذي تُلقى على عاتقه مسؤوليات كبيرة، كأنّه المؤسسة الوحيدة الباقية، بينما يتعرّض قائده العماد جوزاف عون لحملات تجريح على خلفية طرح اسمه مرشحاً لرئاسة الجمهورية.
بغياب رئيس الجمهورية لا يقام احتفال ترقية تلامذة الضباط إلى رتبة ملازم لأنّ الرئيس هو من يقلّدهم السيوف. بعد قرار تجميد التجنيد في الجيش اللبناني وتطويع تلامذة ضباط جدد في المدرسة الحربية، عملت القيادة وتجنّباً للفراغ إلى افساح المجال أمام العسكريين المؤهّلين من داخل المؤسسة لمتابعة دورات الترقية إلى رتبة ملازم. نحو 105 تلامذة جدد، بينهم عدد قليل من الأمن العام وأمن الدولة، سيحصلون على هذه الترقية هذا العام في الأول من آب، ولكن من دون احتفال ومن دون تقليد للسيوف.
هي المرّة الثانية التي واجه فيها الجيش مثل هذا الوضع. بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان ثم بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون. ولكن الأمر الأخطر الذي سيواجهه هو احتمال حصول الفراغ في موقع القيادة بعد 10 كانون الثاني 2024 تاريخ إحالة العماد جوزاف عون إلى التقاعد بحكم بلوغه السن القانونية.
الفراغ في الأمن
بوادر مواجهة مثل هذا الفراغ في الجيش والقوى الأمنية الأخرى، بدأت قبل انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون عندما لم يتمّ ملء الفراغ الذي نشأ في مجلس قيادة قوى الأمن الداخلي منذ حزيران 2022، بحيث فقد هذا المجلس قدرته على الانعقاد نتيجة فقدان النصاب، وآلت صلاحياته إلى مدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان الذي عيّن ويعيّن عدداً من الضباط في المراكز التي شغرت بموجب أوامر فصل داخلية. الأمر الذي انعكس سلباً وتوتراً على العلاقة بينه وبين وزير الداخلية القاضي بسام مولوي.
الأمر الأكثر جدلاً وخطورة حصل في المجلس العسكري في الجيش اللبناني المكوّن من ستة ضباط هم: قائد الجيش رئيساً، رئيس الأركان نائباً له، المدير العام للإدارة، المفتش العام، أمين عام المجلس الأعلى للدفاع وضابط سادس ثابت يتمّ تعيينه بقرار من مجلس الوزراء. في 11 آذار 2022 وقّع رئيس الجمهورية قرار تعيين العميد بيار صعب عضواً ثابتاً والعميد الركن محمد المصطفى كأمين عام لمجلس الدفاع الأعلى بعد إحالة سلَفيهما العميد الياس شامية واللواء محمود الأسمر إلى التقاعد.
ولكن في 23 و24 كانون الأول تقاعد كل من رئيس الأركان اللواء أمين العرم والمفتش العام العميد ميلاد إسحق من دون أن يتمّ تعيين بديلَين عنهما. بحكم أنّ المفتش العام تابع لوزارة الدفاع كلّف وزير الدفاع، العميد المتقاعد موريس سليم، العميد ملحم الحداد ليحلّ محلّ العميد إسحق. ولكن قائد الجيش العماد جوزاف عون وضعه بتصرف القيادة وكلّف العميد جرجس ملحم القيام بمهمات المفتش العام بحكم أنّه أرثوذكسي وهذا المنصب لأرثوذكسي بينما الضابط الذي عيّنه الوزير كاثوليكي. وإذ لم يتم تعيين رئيس جديد للأركان (درزي)، أحيل أيضاً مدير عام الإدارة اللواء مالك شمص (شيعي) إلى التقاعد في 2 شباط، وبذلك أصبح المجلس العسكري ناقصاً في ظلّ خلاف بين قائد الجيش جوزاف عون ووزير الدفاع موريس سليم، وفي ظل طرح اسم الأول مرشحاً لرئاسة الجمهورية واعتراض «التيار الوطني الحر» برئاسة جبران باسيل عليه وتبعية سليم السياسية له.
سابقة الأمن العام
الجدير بالذكر أنّ قائد الجيش كان طلب تأجيل تسريح الضباط الذين سيتقاعدون بحيث يتم حلّ مسألة الشغور، ولكنّ وزير الدفاع لم يوافق على هذا الطلب. كما أنّ نوّاب «الحزب التقدمي الاشتراكي» كانوا تقدّموا بمشروع قانون معجّل إلى مجلس النواب لرفع سنّ التقاعد للضباط القادة، ولكنّ رئيس المجلس نبيه بري لم يطرحه على جلسة عامة لبتّه، ذلك أنّ مجلس النواب ليس أيضاً بعيداً من حال الانفلات التشريعي والمؤسساتي، وهناك جدل حول ما إذا كان يحقّ له أن يعقد جلسات للتشريع أو أنّ عليه أن يكتفي فقط بعقد جلسات لانتخاب رئيس للجمهورية.
مدير عام الأمن العام اللواء عباس ابراهيم ذهب إلى التقاعد في 2 آذار الماضي من دون أن يتمّ تعيين خلف أصيل له. وكان قد عُيّن عام 2011 في هذا المنصب بعد تشكيله من الجيش، وكان سيحال إلى التقاعد كضابط عام 2018 ولكن تمّ تجاوز هذا الأمر بحيث تقدّم باستقالته من السلك العسكري ليتمّ تعيينه في 14 آذار 2017 كمدني يبقى في موقعه حتى يبلغ الـ64 من العمر بدل أن يتقاعد كعسكري بعمر الـ59. وإذا كان حلّ محلّه نائبه اللواء الياس البيسري، إلا أنّ هذا الحل يبقى ظرفياً ولا يلغي حال الفوضى التي باتت تهدّد المؤسسات السياسية والأمنية والعسكرية.
في التاريخ نفسه تمّ تعيين قائد الجيش العماد جوزاف عون ومدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان ومدير عام أمن الدولة اللواء أنطوان صليبا. بعد أكثر من ستة أعوام يبدو أنّ كل الأجهزة الأمنية تحتاج إلى استعادة الانتظام في عمل المؤسسات بدءاً من انتخاب رئيس للجمهورية بحيث يعاد ملء المراكز الشاغرة كلها بعد تشكيل حكومة جديدة. وفي حال لم يحصل تبقى الخطورة في ما إذا كانت ستعمّ الفوضى معظم المؤسسات.
من يحلّ محلّ القائد؟
قائد الجيش العماد جوزاف عون كان أكّد في 21 حزيران الماضي خلال احتفال ترقية ضباط إلى رتبة عميد في قاعة العماد نجيم في اليرزة، أن الهدف اﻷول للمؤسسة العسكرية هو حماية السلم اﻷهلي واﻻستقرار رغم الصعوبات وأنه لا يمكن أن يحلّ أحد مكان قائد الجيش إلا رئيس الأركان.
رئيس الحكومة المستقيلة نجيب ميقاتي ليس مستعجلاً على ملء الفراغ في المؤسسة العسكرية. ما لم يحصل قبل انتهاء ولاية الرئيس عون كيف يمكن أن يحصل بعدها خصوصاً في ظل الخلاف حول دستورية جلسات الحكومة. ثمة طروحات مختلفة تتحدث عن ملء الفراغ في القيادة ولكنّها كلها لا ترقى إلا إلى مرتبة ترقيع الحل. هناك من يعتبر أنّ أعلى الضباط رتبة في المجلس العسكري اللواء بيار صعب، هو الذي يحل محل القائد، وهناك من يعتبر أن الضابط الأعلى رتبة بين مساعدي رئيس الأركان هو الذي يتولى المسؤولية وهو العميد الركن الطيار زياد هيكل.
ميقاتي اعتبر أن الوقت لا يزال يسمح بالمناورة فربما انتخب رئيس للجمهورية قبل 10 كانون الثاني المقبل. وبالتالي أعطى لنفسه وقتاً حتى قبل 15 يوماً من انتهاء ولاية العماد عون. ولكن حتى لو انتخب رئيس، فكيف سيتم تعيين قائد جديد للجيش أو رئيس للأركان طالما أنّ الحكومة الحالية المستقيلة لا يمكن أن تعين وطالما أن لا قدرة على تشكيل حكومة جديدة في وقت قياسي. على رغم أن كل التوقعات تنفي إمكانية انتخاب رئيس للجمهورية قبل 10 كانون الثاني.
خطورة الوصول إلى هذا التاريخ من دون حسم المسألة يخفي خطورة كبيرة. منصب قيادة الجيش لا يشبه المناصب الأخرى لا في المديرية العامة للأمن العام ولا في حاكمية مصرف لبنان ولا في غيرهما. قيادة الجيش تتحكّم بالقرار العسكري وعلى عاتقها تُلقى مهمات كثيرة بحيث يبدو وكأنّها المؤسسة الوحيدة التي لا تزال تمثّل استمرارية الدولة. وتهديد وحدتها ومركزية القرار فيها يهدد السلم الأهلي ويمكن أن يسقط الضمان الأخير للوقاية من الفوضى. ولذلك تبقى هناك أهمية كبرى متعلقة بهذا الموقع حتى لا يتمدّد إليه الفراغ أو الإنقسام.
إنقسامات وتفكّك
عام 1976 إنقسم الجيش كتائب وألوية ووحدات. ثم عاد وتوحّد مع العماد فكتور خوري أيام ولاية الرئيس الياس سركيس. ثم انقسم في العام 1983، على عهد الرئيس أمين الجميل، وتوزّع ألوية طائفية ومذهبية في المناطق. ثم انقسم مجدّداً جيشين وقيادتين ووزارتي دفاع أيام حكومتي العماد ميشال عون والرئيس سليم الحص بين عامي 1988 و1990. وهنا يكمن السؤال الأخطر: ماذا إذا تمّ اعتماد حلّ من الحلول المطروحة وجرى الإعتراض عليه؟ هل يعود الجيش ألوية موزّعة بحسب المناطق؟ ومن يضمن عندها استمرار الوحدة الداخلية والأمن؟ وهل المقصود الوصول إلى 10 كانون الثاني المقبل من دون انتخاب رئيس لكي يتأمن إخراج قائد الجيش من المنافسة من موقعه القيادي؟ وهل إحالته إلى التقاعد تنهي احتمال طرح اسمه كأحد الخيارات الرئاسية؟