الوضع المعقد في المنطقة يضع الجميع في مواجهة منعطفات تاريخية، غير واضحة المعالم ولا محددة التواريخ والازمنة، مما يجعل كل المجموعات اللبنانية تتخبّط في أزماتها الداخلية وفي علاقاتها بالمجموعات الاخرى، من دون امتلاك رؤية واضحة تستوعب ما هو أبعد من التطورات اليومية وتداعياتها، بل قد تتحول مجموعات أسيرة مواقفها الجامدة، أو أدوات في صراعات الخارج.
بالأمس اجتمع نواب مسيحيون في بكركي، محاولين إطلاق مبادرة ترفض استمرار الفراغ في رئاسة الجمهورية، لكنهم سرعان ما أضاعوا البوصلة فدعوا الى الانتخاب بالنصف زائد واحداً، الأمر الذي رفضه سيد بكركي بعدما كان من الثوابت لدى سلفه البطريرك نصرالله بطرس صفير لسنوات، خوفاً من احتكار المسلمين القرار السياسي، وضياع الدور المسيحي في اختيار الرئيس المسيحي. والمسيحيون الذين تزداد شكواهم لم يجدوا علاجاً لأمراضهم المزمنة على رغم حوار عوني – قواتي، خفّف احتقاناً، ولم يرسم بعد، وربما لن يرسم، معالم ثابتة لوفاق حقيقي، إذ أن إضاعة الوقت قبل اعلان “ورقة النيات” تؤكد وجود خطة واضحة لإضاعة الفرص، او ربما لالتقاط اشارات وفرص بديلة.
ويجنح العماد ميشال عون الى مبادرة يعتبر انها لا تتطلب تعديلات دستورية، ويدفع، مع حلفائه، الى مؤتمر تأسيسي لإعادة صوغ طريقة ادارة السلطة، وهو بذلك يضيّع البوصلة تماماً، اذ يذهب الى مكان مجهول منه على الأقل، ومن الفريق الذي يمثل ومن مجمل المسيحيين. فإصلاح النظام من داخله يختلف تماماً عن اعادة صوغ الرؤية والتركيبة. أما قوله ان “معركتي اليوم من دون سقف، فإما أن أربح أو أخسر ولن أتركها إلا شهيداً”، ففيه الكثير من الشخصانية القاتلة التي تدفع بخصومه الى الاستمرار في مضايقته ربما الى حد بلوغه تلك “الشهادة”.
في المقابل، لا يجد “حزب الله” المبرّرات الكافية لإقناع شركائه في الوطن (لا في القرار)، بمشاركته في الحرب السورية، وبتدخله المباشر او غير المباشر في مسار الأحداث في البحرين واليمن والعراق. واذا كانت معارك القلمون مقبولة من كثيرين لأن فيها دفاعاً عن حدود لبنان، فان الاستماتة في الدفاع عن نظام بشار الاسد فيها ضلال كبير واستفزاز لمواطنيهم من مختلف الطوائف الذين عانوا الأمرّين من ممارسات ذلك النظام.
أما بعض “أهل السنة”، وهي تسمية اتخذت معنى استفزازياً ايضاً، فقد أضاعوا البوصلة كثيراً بتعاطفهم مع “النصرة” و”داعش” في مواجهة “حزب الله”، وبتحولهم بيئة حاضنة للتنظيمات الارهابية التكفيرية، وحجتهم وقف التمدد الايراني، والتخفيف من سيطرة “حزب الله” على مفاصل الحياة الأمنية والسياسية، وربما الاقتصادية، في البلاد، لأن هذا الخيار قد يقود الى الخراب الكلّي، وعندها يسقط السقف على رؤوس الجميع، اي “أهل السنة” و”حزب الله” على السواء. وهذا لم يكن يوماً خياراً صائباً لأقوياء، بل خيار انتحار جماعي.