هل كان علينا أن نسأل أنفسنا، نحن الذين جرَفَنا وهْمُ الانحياز إلى «14 آذار»، أنه كان يقف بيننا شخص من نوع غبريال المر، هو نفسه الذي كتب على حسابه على «تويتر» قبل الانتخابات الفرنسية بيوم واحد هذه العبارة: «ابتدأ الإصلاح والتغيير في لبنان بانتخاب العماد ميشال عون، تبعه انتخاب دونالد ترامب. هل ستكتمل الثلاثية بانتخاب مارين لوبن؟ إن شاء الله»؟
الرجل، غبريال المر لم يكن يوماً أساسياً في تحالف «14 آذار»، وما قاله لا يستحق البناء عليه، أو أن يُستنتج منه أن الجماعة الأوسع، أي «14 آذار»، هي التي قالت ما قاله، وهو الآن ربما خارجها أصلاً، أو هي خارجه. والأرجح أن «14 آذار» خارج نفسها هذه الأيام. لكن غبريال المر يُمثل شيئاً في «14 آذار»، حين انعقدت هذه الجماعة في وجدان جماعي. هو جزء من جوهرها ومن موديلها. وهو على هذا النحو في لحظة قوله ما قال عن لوبن وترامب، ففي «14 آذار» قَدْر من الانعزال لم تسعفنا الأحداث لنرصده في رفاقنا في التظاهرة، أو أننا تعامينا عنه. هو نفسه الانعزال الذي دفع المر إلى قول ما قاله، وهو مقولة سبق أن تردّدت أصداء لها في مواقف الناطق باسم الجماعة فارس سعيد حين تحدث عن شيعة جبيل ومشكلتهم مع الكنيسة المارونية، ووليد جنبلاط حين خاطب النظام السوري بعبارة «يا أحفاد الحشاشين». الانعزال على الأرجح هو ضائقة أقليات «14 آذار»، أما ضائقة أكثرياتها فقد تمثّلت برفع متظاهرين من عكار صور صدام حسين في ساحة الشهداء في بيروت.
نعم، ما قاله غبريال المر في تغريدته يشبه شيئاً ليس عابراً في «14 آذار»، أي الجماعة التي لم نحاسب أنفسنا بعد على انحيازنا لها، فلـ «14 آذار» وجه انكفائي، وفي دعاواها قَدْر من «الوطنية اليمينية» التي يسهل انزلاقها نحو الانعزال.
وفي موازاة الانعزال المسطح والواضح الذي تنطوي عليه دعاوى «14 آذارية»، ثمة شعبوية مُسفّة تعوم على خطاب الجماعة الأخرى، «8 آذار»، أي الجماعة التي يجب أن نُكافئ أنفسنا على أننا أمضينا العقدين الفائتين في مساجلتها. والأمثلة كثيرة على هذا الاستنتاج، لكن أحدثها ربما، كان ما قاله الوزير السابق وئام وهاب بحق قاضية لبنانية أصدرت مذكرة توقيف بحق سيدة مسنة، فقد كتب على حسابه على «تويتر» أيضاً: «أنصح مجلس القضاء الأعلى بعدم إعطاء مراكز حساسة وعلى تماس مع الناس للعانسات، لأن الأمر يتحول عندهن إلى انتقام من كل شيء. هكذا يقول علم النفس». لكن الأمر بحالة «8 آذار» لم يقتصر على جوهرة وهاب هذا الأسبوع، فقد أضاف النائب عن حركة «أمل» هاني قبيسي لمسته على المضمون الهابط لخطاب هذه الجماعة، فوصف محطة «نيو تي في» بـ «الأرملة الساخوطة»، مستعيناً بقاموس شعبي لطالما زخر بعبارات الردة والإسفاف.
و «8 آذار» يُشبهها أيضاً إسفاف مفوّهيها. وهو بدوره جزء من ممارساتها ومن دأبها في السياسة وفي الشارع. أليست واقعة احتلال بيروت في 7 أيار من العام 2008 صورة موازية لاستباحاتها. واستباحة اللغة هي أهون الاستباحات.
بقدر من السينيكية يمكن المرء أن يُصوّر الحياة السياسية في لبنان في السنوات العشر الأخيرة بصفتها صراعاً بين منعزل ومُسفّ. الأول طوّر خوفه فانكفأ وانهزم، والثاني ذهب بإسفافه إلى حد استباحة البلد كله. وفي الانتخابات الفرنسية وقف الأول مع مارين لوبن وانحاز الثاني إلى جان لوك ميلانشون. واذا كان الأول ضد بشار الأسد في لبنان، فهو معه في سورية، بينما الثاني كان أكثر انسجاماً مع نفسه، فكان مثل ميلانشون، مع بشار الأسد في سورية ومعه في لبنان.