IMLebanon

عصر النزيف اللبناني

 

تعيش البلاد هذه الأيام، وكأنها في الهزيع الأخير، كأنها أم تودّع أبنائها قبل الرحيل، بل كأنها في عصر النزيف اللبناني الأخير، كل شيء فيها، صار من سقط المتاع، ترى تهاوي المؤسسات، ترى الإفلاس العام الذي يضرب البلاد، كل يوم تخسر ما تبقّى لها، في خزينتها، في المالية العامة، في الموازنة. كل يوم تتراكم عليها الخسائر، وليس هناك في الدنيا كلها، من يدعمها، أو يعوّض عليها، أو من يقيلها من عثراتها. كثر الشامتون بها، وقلّ الذين كانوا يعطفون عليها، قلّ المتعاطفون معها، حتى لكأنهم لا يجرؤون حتى للذهاب إليها لأجل «العزاء» بها، لأجل «التعزية» بها، يؤمّها الغيارى، ولكن سرعان ما يعودون عنها، حتى لكأنها بلد غير قابل للحياة.

ترى البلاد مسجاة بطولها وعرضها على الدف، وترى السكاكين الحادّة حولها، ترى القصابين، والجزارين ينظرون إليها، ينتظرون ساعة الصفر، ينتظرون أن تأتيهم الأوامر لذبحها، وتقاسمها هذه المرة ذبيحة، لا بقرة حلوبا في مراعيها.

ترى الأرتال، بل السلاسل البشرية، تخترق الحدود من جميع الجهات. ترى الأعداء يتربصون بها، ينتظرون إنحباس الهواء عنها، ترى الجبابرة الكبار يتكالبون عليها. أما هي، ففي حالة نزيف دائم، وكأنها في الهزيع الأخير من ليلها.

أبناؤنا يقفون على أبواب الهجرات، بالآلاف المؤلفة. لا نتحدث عن هجرة العقول وحدها، وإنما نتحدث عن النزيف البشري، عن الزيف السكاني الذي ضربها، الذي أصابها.

فرغت القرى والبلدات من أبنائها. فرغت الكروم والبساتين، وكذا الحقول والسهول، من ناسها، من الفلاحين والمزارعين، ومن ملّاكها، ممن عاشوا على ترابها، من أكلوا وشربوا فوقها. يبست فيها الزروع، ونشفت فيها العروق، وصار أبناؤها يطلّون على أبوابها، يزورونها، يتفقّدونها بين الحين والآخر، خشية دخول الغرباء خلسة إليها. صار الغرباء يتربصون بها، يتلصصون عليها، ينتهزون الفرصة الملائمة، ليضربوا ضربتهم، ويقتطعوا تلة أو جبلا أو نهرا أو شاطئا، أو حقلا، أو موقعا، ليكون من ممتلكاتهم الدائمة.

بلادنا تعيش هذه الأيام، نزيفا دائما. هجرها الأطباء والمهندسون. وهجرها الأساتذة الجامعيون. هجرتها الصحافة ودور النشر. هجرتها المطابع. هجرها المدرّسون والممرضون. هجرتها الرساميل، وهجرت منها الأموال، وأغلقت المصارف والبنوك أبوابها.

نضبت المياه في شبكاتها، فلم تعد تصل قطرة ماء إلى المنازل ولا إلى الحقول. نزفت منها الكهرباء، فلم تعد الشبكات تعمل إلّا لصالح أصحاب المولدات، وتعطّلت شركات الكهرباء عن دورها.

بلادنا تنزف منذ أعوام، والمسؤولون لاهون عنها، ينتظرون ذبحها، حتى يقتسموا لحمها وشحمها. بلادنا تموت من شدّة النزف، والجبابرة الكبار ينتظرون موتها، حتى يقتطعوا أرضها، حتى يقتطعوا بحرها، حتى يقتطعوا جبالها.

بلاد عظيمة بلادنا، مصابة اليوم بأعظم مصاب، تبتلى به الأوطان.. إنه النزيف اللبناني، بطعم الخروج بلا عودة، فإذا ما طال غياب الدولة، وإذا ما طال غياب الرئاسة، وإذا ما أقفلت الإدارات أبوابها، فعلى البلاد السلام، لأنها سوف تموت بمثل هذا النوع من الموات، لأنها ها قد دخلت عصر النزيف اللبناني الحاد الذي يهدّد حياتها.

 

* أستاذ في الجامعة اللبنانية