IMLebanon

أيهما أخطر… الاعتداء على السيادة البحرية أم المالية؟

 

 

بين ترسيم الحدود البحرية جنوباً والمشكلة الحديثة حول الحدود البحرية شمالاً، فتح بازار سياسي جديد، وقت أصبح الانهيار المالي والاقتصادي على أشده، وعادت الاصطفافات مجدداً لتحل محل الكلام عن الحكومة وانتظاراتها. وإذا كان الخلاف حول الترسيم البحري الجنوبي ليس خلافاً سياسياً، بمعنى الانقسام حول هوية «المعتدي»، في مقابل الترويج السياسي منذ سنوات للتنقيب عن النفط و» إثراء» لبنان وسياسييه، فإن فتح ملف الحدود البحرية مع سوريا سرعان ما أخذ طابعاً سياسياً محضاً على خلفياته المعروفة المتعلقة بالموقف من نظامها، وما يستتبعه من مزايدات، ولا سيما في الشارع المسيحي، حول الحفاظ على الحقوق اللبنانية. وقد تحول فجأة حدثاً أول لدى القوى السياسية التي سارعت الى استثماره بعد وقت قليل من انفتاح الملف. هذا الاستنهاض السياسي ظهر وكأن السيادة، المطلوبة من دون أي التباس وتردد، بحراً وبراً وجواً، لا تزال تمثل إحدى أولويات اللبنانيين وانتظاراتهم، ولم تعد فعلاً آخرها. فاهتمام الناس الفعلي لم ينصبّ فعلياً على الخلاف حول السيادة البحرية شمالاً أو جنوباً، بقدر ما تركز في الساعات الأخيرة على مزيد من تجليات أوضاعهم اليائسة ويومياتهم المأسوية، فباتت محصورة بأثمان حلويات العيد المرتفعة، وأطباق شهر رمضان وأسعارها الخيالية، وصفوف المودعين أمام آلات السحب المصرفي، التي تبدو المصارف وكأنها تتقصد إفراغها إمعاناً في إذلال الناس عند أول أيام الشهر والعطل.

 

ثمة نوع آخر من السيادة يوازي أهمية السيادة البحرية والجوية والبرية، التي تتعلق «باعتداء خارجي»، وتحوله شعاراً ولازمة سياسية في كل خطب القوى السياسية، من 8 و14 باختلاف هوية المعتدي الخارجي، هي السيادة المالية التي تتعلق بـ«اعتداء داخلي» موصوف بالأدلة والبراهين. لكن هذه السيادة لم تلاق، رغم استمرار الممارسات التي يقوم بها مصرف لبنان والمصارف والسياسيون والمسؤولون الأمنيون والعسكريون الذين يحمون القطاع المصرفي ويستفيدون من خدماته، إجماعاً سياسياً للتنديد باختراقها على كل المستويات، أو التحرك للحفاظ عليها. منذ نحو سنة ونصف سنة، لم يعقد مسؤول سياسي رسمي أو حزبي مؤتمراً صحافياً عاجلاً للمطالبة بأموال الناس أو السؤال «الجدي» عن ارتفاع سعر الدولار، أو شرح حقيقة دفن خطة حكومة الرئيس حسان دياب المالية، أو مصير التدقيق الجنائي. ولم يغرد أو يرتفع صوت ي مسؤول من القوى السياسية من وزراء ونواب لشرح خلفيات التمديد لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ولا للضغط عليه وعلى المصارف، كما يحصل في ملف تشكيل الحكومة والثلث المعطل، لرد ودائع اللبنانيين. لا بل إن ما يحصل هو تمادٍ لا سابقة له، في تجاهل ممارسات القطاع المصرفي واستمرار التلاعب بأسعار الدولار، والمناورات التي تصبّ في نهاية الأمر في رفع الدعم وما ينتظر اللبنانيين من أيام أكثر سواداً.

المفارقة أنه في كل ما يعيشه المسؤولون من إنكار لحجم الكارثة المالية وشراكتهم في التغاضي عنها، يظهر الكلام عن نوعين من الوقائع الخارجية المتعلقة بالواقع المالي؛ الاول استمرار طلب المساعدة، لبنانياً وفرنسياً، من السعودية والخليج العربي، وهذه المساعدة مالية بالدرجة الاولى. ورغم كل المناشدات، فإن الدعم السعودي المالي لن يحصل في المدى المنظور. أما الثاني، فهو منحى الضغط الفرنسي أو الاوروبي على مسؤولين لحثّهم على تشكيل الحكومة. فالفرنسيون يوم أطلقوا مبادرتهم، عاينوا خطورة الواقع المالي والاقتصادي، وليس السياسي فحسب. وجوهر الانتقادات السابقة لانفجار المرفأ وزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون انصبّ على ضرورة معالجة التدهور المالي، كما السرقات والهدر والفساد. ويأتي التلويح الفرنسي والاوروبي الحالي بمزيد من الضغط على مسؤولين لبنانيين، من زاوية الملفات المالية والشبهات حولهم. وإذا كان واضحاً اختلاف الآليات الاميركية المتبعة لفرض عقوبات على مسؤولين لبنانيين، عن الآليات الفرنسية والاوروبية، والبريطانية والسويسرية، بسبب فصل السلطات والقوانين المتبعة والمستهدفين بها، وطريقة عمل الاجهزة المعنية، إلا أن الارضية المالية واحدة. ومهما كانت نتيجة هذه الضغوط وطرق ترجمتها، فهي تلقي الضوء على وقائع مالية رسمية تتعلق بالدولة كأجهزة، كما تتعلق بأحوال شخصيات وفسادها. وهذه كلها أصبحت تخدم المقاربات الخارجية للأزمة اللبنانية، بدليل تكثيف تسليط الضوء عليها في إعلام الصف الاول الخارجي ومراكز دراسات ذات ثقة، سواء حول ممارسات المسؤولين وفسادهم أم حول وقائع أحوال اللبنانيين وإفقارهم اليومي، ما يعطي لواقع الانهيار المالي في لبنان أولوية على كل ما عداه. في المقابل، تستمر حالة الانكار اللبنانية على المستويات كافة، والالتهاء بمناكفات تشكيل الحكومة بعد خمسة أشهر على تكليف الرئيس سعد الحريري.