ليس ارتفاع الأصوات بالشكوى من تغييب الدور المسيحي وتهميش الدور السني والدور الدرزي في السلطة مجرّد احتجاج على تحكّم «الثنائي الشيعي» بكل مفاصل السلطة. ولا المشكلة العميقة المتصلة بالقضية اللبنانية الوطنية هي فقط التحكّم بالسلطة بل أيضاً الشغل ضمن استراتيجية من خارج السلطة: الإنفراد بحرب على جبهة الجنوب، ممارسة دور عسكري إقليمي في سوريا وخارجها، أخذ البلد إلى «محور المقاومة» بقيادة إيران، والاندفاع في العمل لمشروع جيوسياسي عابر للبنان وحتى للمنطقة. فما ضاق على أكثرية اللبنانيين ليس النظام بل القبض عليه وتحويله إلى «لانظام»، وبالتالي إفراغ لبنان من جوهره وإضعاف «الرسالة» التي هي أساس حياته، بحيث يبدو البلد غريباً على أرضه. والمخرج ليس البحث عن بدائل مثل الفيدرالية أو ما هو أقل أو ما هو أكثر، لأن الشكوى من الهيمنة بقوة السلاح و»البلوك» المذهبي المغلق على النظام المركزي ستصبح أكبر مع أي بديل، على افتراض أن تحقيقه ممكن، مع أن الحواجز أمامه عالية جداً.
ذلك أن البحث عن مشروع خاص مسيحي وسني أو درزي هو هروب إلى الأمام في طريق مسدود. فلا شيء اسمه قضية مسيحية أو سنية أو درزية، بل هناك قضية لبنانية واحدة. ولا أحد يجب أن ينسى ما أكّد عليه الإمام محمد مهدي شمس الدين ضمن رؤية واسعة، وهو: «ليس للشيعة اللبنانيين مشروع خاص سوى الدولة، ولا مجال لدولة دينية في مجموعات متنوّعة». وإذا كان إغراء القوة قاد الى مخالفة وصية شمس الدين والعمل من أجل مشروع خاص، فإن التجارب الماضية كفيلة بتعلّم الدرس، ولكن بعد تضحيات كان يمكن تفاديها. لا فقط تجارب الطوائف التي حاولت التحكّم بالبقية، فتوهّمت النجاح في البدء ثم فشلت في النهاية، بل أيضاً تجارب قوى إقليمية أبرزها التجربة السورية في لبنان.
حين عملت أميركا على ترتيب «إتفاق الخطوط الحمر» الذي دخل الجيش السوري على أساسه إلى لبنان في بدايات الحرب، قال الأميركيون للسوريين: «لا تضغطوا على اللبنانيين كثيراً ولا تبقوا في لبنان طويلاً». لكنّ السوريين فعلوا العكس. أمسكوا بكل مفاصل لبنان السياسية والأمنية والعسكرية والاجتماعية وحتى البلدية، وتصوّروا أن مشروع البقاء فيه صار ممكناً. فحين زاد عنادهم ضد المعارضة الداخلية والاعتراض الخارجي عمل الرئيس الأميركي جورج بوش الابن والرئيس الفرنسي جاك شيراك على صدور القرار 1559 عن مجلس الأمن وجرى إجبار القوات السورية على الانسحاب.
ولا حل إلا بمشروع وطني تحمله كتلة تاريخية شعبية متماسكة لا مجال لأن يتكرّر معها ما حدث لـ»ثورة الأرز» وتخلي أحزاب عن الكتلة الشعبية التي هي أساس «14 آذار». لكنّ الظاهر حتى الآن، على الرغم من وحدة الموقف بين أكثرية اللبنانيين، هو العجز عن بناء تحالفات واسعة، بحيث تبدو أطراف قوية فاقدة القدرة على توظيف رساميلها السياسية. وكل ما نراه من معظم القوى وعبر الطوائف ينطبق عليه ما سمّاه العالم السياسي الفرنسي برتران بادي «التوافق المتقلب».
ليس جديداً انتظار الضغوط الخارجية على القوى الداخلية لكي تقوم بواجباتها الدستورية بدءاً بانتخاب رئيس للجمهورية وانتهاء بفرض العودة إلى العمل بالدستور الذي جرى تعليقه. ومن دون إحياء الدستور نبقى في مرحلة ما قبل الدولة رهائن خلل في الشرعية وهيمنة خارج الشرعية. وأقسى ما نخسره، من بين أمور كثيرة، هو ما يسمّيه فرنسيس فوكوياما «رأس المال الاجتماعي»، أي ثوابت الثقافة الوطنية والمشاركة.