أموال الهبة بغالبيتها للنازحين.. وتدقيق في تهديد مسؤولين بالعقوبات
الأربعاء، حكومة تصريف الأعمال على موعد مشهود. فالجلسة النيابية التي أرادها الرئيس نجيب ميقاتي طلبا لتغطية رئيس مجلس النواب نبيه بري هبة المليار يورو، ستتحوّل ساحة وغى، بعدما تبيّن أن للهبة مسارب وملاحق غير معلنة، إلى جانب أنها عبارة عن تجميع تقديمات اعتاد الإتحاد الأوروبي على تقديمها لدعم النازحين السوريين في لبنان. بمعنى أوضح، الهبة مجرّد تمنين مقسّط على 4 سنوات، لتذهب غالبية المبلغ المرصود إلى النازحين أنفسهم عبر منظمات المجتمع المدني التي جرى إحياؤها أخيرا بعد ضمور.
حتى أن رئيس مجلس النواب الذي يلجأ إليه ميقاتي ويستجير عند كل محنة، تبرّأ من الهبة نفسها، حين أعلن بوضوح أنها لم تُناقَش معه لا من قريب ولا من بعيد خلال اجتماعه مع الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس ورئيسة المفوضية الاوروبية أورسولا فون دير لاين أثناء زيارتهما الأخيرة لبيروت. تاليا، قد يجد ميقاتي نفسه الأربعاء وحيدا في مواجهة ضارية تتكتّل فيها غالبية القوى السياسية، وكل الأحزاب المسيحية، لو عرضاً، على اختلاف مشاربها.
والرفض ليس للهبة بقدر ما هو للمقاربة الحكومية التي تعتبرها القوى الرافضة تغطية أقرب الى التواطؤ مع الخارج لتحسين أوضاع النازحين ماليا وتحصينهم سياسيا لقاء تخليهم عن فكرة الهجرة إلى أوروبا وتقبل مدّ إقامتهم في لبنان.
ويعزّز السلوك الأوروبي عبر الهبة وشروطها، المعلن منها والخفي، الاعتقاد بأن القارة العجوز على وجه الخصوص تبذل قصارى جهدها لإبقاء لبنان حاضنة للنازحين، على طريق دمجهم تدريجيا وصولا إلى فرض توطين الأمر الواقع، إلى جانب أن كلفة إبقائهم في لبنان لا تزيد عن ١٠٠ يورو في الشهر مقابل ٢٠٠٠ يورو في حال قرّرت أوروبا استقبالهم.
يجعل سلوك الأوروبيين هذا المسيحيين في لبنان على غربة معهم، باعتبار أن الأحزاب المسيحية الديمقراطية في أوروبا طالما كانت نصير هؤلاء والملجأ لهم زمن الصعاب، فيما باتت راهنا على اغتراب مع لبنان ومسيحييه. صحيح أن لا غرابة في أن يبدّي اليمين المسيحي الاجتماعي مصالح شعوبه ويعلّي شأنهم، لكن هذا الواقع المفهوم شيء، والعمل على ضرب وجود المسيحيين في لبنان عبر السكوت عن مؤامرات تشريدهم، لا بل الانخراط في الممارسات الآيلة إلى تهجيرهم وإحلال شعوب أخرى مكانهم، شيء آخر لا يمكن لا فهمه ولا تجاهله ولا السكوت عنه.
الأربعاء، ستُسأل الحكومة عن الهبة وآلياتها التنفيذية وعن صحة توزيعاتها. ففيما أعلن ميقاتي أنها ستذهب إلى اللبنانيين حصراً، تُبيّن المعطيات الرسمية الصادرة عن المفوضية الأوروبية والحكومة القبرصية أن نحو ثلثيّ الهبة، وتحديدا ٧٦٣ مليون يورو ستذهب إلى النازحين السوريين والفئات المهمشة، في موازاة ٢٠٠ مليون يورو لدعم الأجهزة الأمنية في فرض مراقبة الحدود والهجرة، ومبلغ غير محدد من أجل إقناع الصيادين بعدم بيع مراكبهم للمهرّبين. واللافت أن أوروبا أيضا قرّرت ان تعالج التلوّث التي تقول إنه يصيب بلدانا فيها جراء انبعاثات معامل إنتاج الطاقة الكهربائية في لبنان، لذا ستستعمل جزءا من الهبة لتزويد تلك المعامل بمصافٍ وفلاتر بغية ردء التلوّث عنها، لا عن اللبنانيين!
كما ستُسأل الحكومة عمّا تردّد عن تهديدات تلقاها مسؤولون كبار في أعمالهم ومصالحهم الخاصة التجارية والمالية على امتداد العالم، وصولا إلى التلويح بعقوبات في حال انتهجوا مسارا آخر أو عارضوا المقاربة الأوروبية في ملف النازحين.
من الواضح، تأسيساً على هذه الوقائع، أن الهدف الأول للأوروبيين تحسين أحوال النازحين مادياً عبر إغداق المساعدات عليهم كي يرتضوا البقاء في لبنان، مع تحديد مهمة واضحة للقوى العسكرية والأمنية لا تخرج عن سياق منع الهجرة من البحر، وهي المعادلة القائمة راهنا والتي أدت إلى إغراق البر اللبناني بالنازحين مقابل إقفال أي منفذ بحري إلى أوروبا.
لكن أيضا ثمة جوانب أخرى لرفض الأوروبيين إعادة النازحين إلى سوريا:
1-بعضها سطحي كمثل القول إنه ليس باستطاعتهم ذلك لأن المحاكم الأوروبية، وخصوصا في فرنسا وألمانيا، أصدرت قرارات بمنع التعامل مع الرئيس السوري بشار الأسد نظرا إلى ما يعتبرونه سجلا إرهابيا يتملّك به.
2-وبعضها الآخر، وهو الأساس، مرتبط باعتبار واشنطن أن الوقت لم يحن بعد لصفقة سياسية في سوريا، واستطرادا هي لن تسهّل أي عملية للإنخراط في تعويم النظام أو إعمار ما تهدّم بما يمنح الأسد صك براءة وإعادة تأهيل دولي له. هذا يعني حكما أن أوروبا حتى لو أرادت مقاربة مختلفة أو معدلة لمسألة النزوح، غير قادرة على تخطّي الرفض الأميركي، تماما كما ليس في استطاعتها إعلان مناطق آمنة في سوريا، على الرغم من إدراكها حقيقة وجود مناطق واسعة تنطبق عليها صفة الأمان وبإمكان النازحين العودة إليها.