لا تبدو المؤشرات المتعلقة بتأليف الحكومة إيجابية حتى الآن. وهذا يدعو الى احتساب الظروف القاسية التي قد يمرّ فيها اللبنانيون في الفترة المقبلة. لكن القلق حيال البقاء بلا حكومة لا يعني انّ التأليف بداية الخلاص. هناك مخاض مالي واقتصادي قد يكون طويلاً، لكنه لن يبدأ قبل إجراء وظهور نتائج الانتخابات النيابية المقبلة.
الأشهر العشرة التي تفصلنا عن الموعد المبدئي للانتخابات النيابية المقبلة ستكون صعبة وثقيلة على اللبنانيين، سواء بوجود حكومة او من دونها. وقد أصبح واضحاً انّ الأزمات الحياتية ستصبح أشدّ خطورة، ليس بسبب عدم توفر الموارد المالية لدعم السلع الحيوية كالمحروقات والأدوية والمستلزمات الطبية فحسب، بل لأنّ لا وجود لخلية تدير الأزمة وفق المعطيات والقدرات المتوفرة. وعلى سبيل المثال، تعطّلت الاعمال وتكاد المؤسسات تقفل ابوابها قسراً بسبب عدم توفر المازوت، كذلك زحفت العتمة الى المنازل، وتتعرّض المستشفيات والافران لمخاطر النقص في المازوت، وبات المواطن يعيش في كابوس مرعب. ومع ذلك، المازوت موجود في السوق السوداء وبالأسعار السوداء، بما يؤكّد انّ المشكلة ليست فقط في القلّة التي وصلنا اليها، بل أيضاً في استمرار الغيبوبة على مستوى ادارة الأزمة.
هذه الغيبوبة قد تتراجع حدّتها قليلاً في حال تمّ تشكيل حكومة، وهذا هو الفارق الوحيد الذي قد نشهده على المستوى الاقتصادي. أما المعالجات المرتبطة اساساً بمعالجة جذور الأزمة، فهي لا تزال بعيدة، ولن تكون على يدي حكومة ستنحصر مهمتها في تقطيع الوقت وصولاً الى الانتخابات النيابية المقبلة.
حتى في مسألة سعر صرف الليرة، لن يُحدث تشكيل الحكومة، وكما يتوهم البعض، فارقاً شاسعاً، لكنه قد يحدُّ قليلاً من سرعة الانهيار المتوقّع لليرة في الفترة المقبلة. وكما حصل في البداية، قد تتأثر السوق الحرة بأي تطور سياسي ايجابي، لكنها لن تتأخّر في تصحيح مسارها، لتعكس في النتيجة الوضع المالي والاقتصادي الحقيقي المهترئ.
يبقى انّ الاستحقاقات الصعبة ستبقى قائمة بعد الانتخابات، وبصرف النظر عن النتائج، لأنّها المرحلة التي قد يبدأ معها مسار الحوار الداخلي (بين القوى السياسية) والخارجي (مع صندوق النقد والمجتمع الدولي) لتحديد معالم خطة الإنقاذ، والتي ينبغي ان تستند الى رؤية واضحة في شأن الوظيفة الاقتصادية التي سيختارها لبنان لنفسه، ليُبنى على الشيء مقتضاه بالنسبة الى خطة الانقاذ. وهذا يعني انّه لن يكون متاحاً التوافق على خطة موحّدة، اذا لم تتوحّد المواقف حيال اختيار الوظيفة الاقتصادية. وسيكون السؤال الاول البديهي: هل لا يزال لبنان قادراً وصالحاً ليلعب دور مصرف المنطقة، والرائد في تقديم الخدمات المالية؟ وهل لا تزال بنية الاقتصاد تسمح بالانطلاق بتوزيع النسب وفق ما كان عليه الوضع قبل الأزمة؟ أي أن تبقى حصة الاسد في الاقتصاد الوطني لقطاع الخدمات، ومن ثم القطاع السياحي فالصناعة ثم الزراعة…
ليست الاجابات عن هذه الاسئلة، هي المهمة الأصعب في هذا الملف، بل تكمن الصعوبة في الوصول الى قاسم مشترك يسمح بالاتفاق على وظيفة اقتصادية مناسبة. والمشكلة هنا، انّ الحوارات لن تكون بمثابة صراع فكري حول نظريات اقتصادية معتمدة في العالم، بل سيكون صراعاً ايديولوجياً يرتبط بمشاريع كل طرف سياسي في نظرته الى هوية لبنان وتموضعه في صراعات المنطقة.
وبالمناسبة، تزخر تجارب الدول بنماذج اقتصادية تؤكّد في مجملها ان لا وجود لخطط تصلح لكل الدول، بل انّ القواسم المشتركة تنحصر في الحوكمة والشفافية والمناخ السياسي الملائم، بالاضافة الى التسهيلات الادارية المطلوبة. وخارج هذا الاطار، لكل دولة معطياتها وظروفها، والتي على أساسها تعتمد وظيفتها الاقتصادية. وعلى سبيل المثال، لا الحصر ولا التشبيه، اختارت دولة اللوكسمبورغ في اوروبا ان تكون مركزاً مالياً متطوراً، وان تستند في نموها الاقتصادي على الصناعة المصرفية. وأدّى ذلك الى تحولها الى أغنى دولة في الاتحاد الاوروبي وفق مقياس دخل الفرد. وقد وصلت نسبة الدخل الوطني (GDP) للفرد (PER CAPITA) الى 125 الف دولار.
في المعطيات الحالية، مشكلة لبنان، وفي حال بقيت الظروف الاقليمية على حالها، انه لن يكون قادراً على اختيار وظيفة اقتصادية تناسب موقعه ومعطياته وقدرات شعبه، بل من المرجّح ان تجري تسوية (compromise) على الطريقة اللبنانية المعتمدة، بحيث ستبقى وظيفة البلد الاقتصادية مُبهمة، وهنا تكمن المشكلة في المستقبل، اذا وصلنا الى هذه المرحلة.