Site icon IMLebanon

الكلمة أمضى من السلاح

 

لا يختلف إثنان على أن الفكر اللبناني بات منقسماً بشكل عموديّ إلى قسمين يقف كلّ منهما على طرف نقيض من الآخر. وهذان الفريقان هما: المحور السيادي ومحور “حزب الله”. والمواجهة مفتوحة على مصراعيها. ولكن اختلفت وسائلها وفقاً لكلّ حدثٍ أو مشهديّة سياسيّة تعصف في الساحة الوطنيّة. ولا يمكن أن نصل إلى الوطن الذي نحلم به وطناً لأولادنا وأحفادنا من بعدنا إلا إذا وحّدنا رؤيتنا الكيانيّة لوطننا. فهل سيستطيع اللبنانيّون اليوم أن يثبّتوا قواعد لبنان الغد كي لا نعود عند كلّ مفصل إقليمي أو دولي ما وندفع ثمن تسويات هشّة سرعان ما تسقط ويسقط معها جزء من لبنان؟

 

إنّ وجوديّة لبنان قائمة على المبدأ الحضاريّ الكياني، لا على الفكرة الطائفيّة كما سعى أعداء الفكرة اللبنانيّة إلى بثّ ذلك طوال مئات ومئات من السنين. ونجح هؤلاء كلّهم بتقزيم الصراع وحصره بالفكرة الطائفيّة حصراً، فيما الحقيقة هي في مكان آخر تماماً. إنّ طبيعة الصراع اللبناني – اللبناني هي طبيعة كيانيّة. والحقيقة الوجوديّة التي سعى ووصل إليها اللبنانيّون مجتمعين منذ نشأة الوطن اللبناني هي التي جعلت من اللبنانيين شعباً واحداً. لكنّ الإشكاليّة التي أدّت إلى ضرب الصيغة اللبنانيّة هي عدم قدرة اللبنانيّين على التحوّل إلى شعبٍ واحد بل بقوا مجموعة شعوب متناحرة في ما بينها من دون أن تحدَّدَ طبيعة هذا الصراع لحلّه بطريقة جذريّة، وبناء لبنان الغد.

 

والملاحظ في تاريخ لبنان الوجودي كلّه كيفيّة لجم هذا الصراع باستخدام القواعد التسوويّة من دون حلّه؛ ليس بدءاً بتسوية الدوحة، ولا انتهاءً بتسوية الطائف، بل عودة إلى ما قبل تسويات 1969 في اتّفاق القاهرة، وميثاق 1943، ودستور 1920وصولاً حتّى 1860 و 1840، وحتّى زمن الأمراء الشهابيين وعلاقة جبل عامل مع جبل لبنان التي غالباً ما كانت تخضع لأهواء ولاة الدولة العثمانيّة ولحاجات كلّ من الجبلين.

 

وهذا الصراع الذي كان يستعِر ويخبو حسب دعم الارتباطات الحضاريّة للمجموعات الحضاريّة اللبنانيّة مع دول التأثير والنّفوذ. كلّما تقوى دولة نفوذ ما في العالم، يقوى المحور الذي يدعمها في لبنان ويحاول بدوره الانقضاض على شركائه في الوطن لفرض وجهة نظره في بناء الدّولة التي تشبهه. لذلك، نعتبر هذا الصراع من طبيعة وجوديّة – كيانيّة. وعلى مرّ التاريخ نجح اللبنانيّون بأكثريّتهم المسيحيّة- المارونيّة بالتحديد- لتثبيت الكيانيّة اللبنانيّة في دستور 1920، وهذا ما لم يقبله الشركاء الحضاريّون كلّهم في تلك المرحلة؛ بل وقفوا على الأكمة متربّصين بعضهم لبعض.

 

والصراع الذي نشهده اليوم هو من الطبيعة نفسها. و”حزب الله” مدرك تماماً أنّه لن يستطيع فرض فكرته اللبنانيّة التي أعلن عنها فور تأسيسه في العام 1982 بالقوّة العسكريّة. لذلك لجأ إلى الاستخدام الناعم لهذه القوّة كي لا تنقلب عليه يوم يتجرّد من قدراته العسكريّة. من هنا، نفهم تلك التفاهمات التي صاغها مع مَن يختلف معهم حضاريّاً، وبالتحديد فريق “التيار الوطني الحرّ” الذي نجح بخطفه في 6 شباط 2006، وأخذه بعلمه إلى هدفه الحقيقي.

 

مخطئ مَن يظنّ أنّ “التيّار الوطني” قد غُرِّرَ به كفتاة جاهليّة للزواج بها وهي لمّا تبلغ بعد. لا “الحزب” بقاصر كان ولا “التيار” أيضاً. كلاهما يعلم ماذا اقترفته يداه بحقّ لبنان ككلّ. وهذا ما يدفعنا إلى الاستنتاج بأنّ حرب السلاح هي حرب غير مجدية، وهذا ما ثبّتته تجارب التّاريخ.

 

فبلحظة إقليميّة أو دوليّة ما قد يُسّلَّح أيّ فريق في لبنان. وهذا ما سيقزّم المواجهة من الفكر إلى قوة السلاح وكثرة الدم. لنعود ونكرّر بعد ذلك أخطاء التاريخ نفسها. لذلك، قوّة الكلمة هي حتماً أفعل من أيّ قوّة أخرى لأنّها تستمرّ من جيل إلى جيل.

 

من هنا، الحرب الأمضى والأفعل هي حرب الكلمة والنّمذجة. وهذا نجح به كلّ الأحرار في لبنان حيث استطاعوا خلق نموذج حياتيٍّ وطنيٍّ يحتذى به، ويُطمَحُ إليه من قبل كلّ مَن يعشق الحرّيّة. ولا يحاولنَّ أحد بعد اليوم ممارسة عمليّة غسل الأدمغة أيديولوجيّاً وعقائديّاً كما كان سائداً ما قبل الثورة التكنولوجيّة في عالم الإتّصال والتواصل الاجتماعي. وهذا ما يؤكّد فعاليّة قوّة الكلمة التي تفوق قوّة السلاح. وإلا ما الذي يدفع الأيادي السوداء إلى اغتيال قادة الفكر والرأي الحرّ؟

 

سينجح اللبنانيّون الأحرار هذه المرّة بتثبيت الكيانيّة اللبنانيّة أو الفكرة اللبنانيّة لأنّ السواد الأعظم منهم قد اختبر النهج الحياتي المغاير لهذا الخطّ اللبناني. والجوع الذي أوصلنا إليه نهج المحور الايراني الذي ما فتئ “حزب الله” يسعى لفرضه لم يستثنِ أحداً. واللبناني لم يكن يوماً مع الموت ضدّ الحياة، ولا مع الباطل ضدّ الحقّ. لذلك المطلوب اليوم من اللبنانيّين جميعهم أن يقرّروا أيّ لبنان يريدونه؟ وأيّ وطن سيتركونه لأولادهم وأحفادهم من بعدهم. نحن لقد قرّرنا ذلك، ونعمل لتحقيقه في كلّ لحظة. أمّا أنتم… فهل قرّرتم؟