Site icon IMLebanon

«جنون الدولار» هل يقرِّب النهايات؟

 

 

في علم الاقتصاد، ثمة تداخلٌ وثيق بين ما هو اقتصادي وما هو سياسي. وانطلاقاً من هذه القاعدة، يترجم اليوم «جنون الدولار» في لبنان «جنوناً» في السياسة أيضاً. وإذا كان الدولار يتَّجه صعوداً بلا أفق، فمعنى ذلك أن الوضع السياسي مقبل على التهابٍ خَطِر أيضاً، وبالتزامن.

منذ خريف 2019، انكشف أن الليرة منهارة. ولكن، عملياً هي كانت منهارة منذ سنوات مع وقف التنفيذ. والسبب الأساسي في «وقف التنفيذ» ليس «براعة» الطبقة السياسية في إخفاء الفساد والأرقام والفضائح و»النوم» على دولار الـ1500 ليرة، كما يظن البعض.

 

فما جرى في الواقع، هو أنّ القوى العربية والدولية التي كانت تغطي هذه الطبقة وتموِّلها، على رغم إدراكها الكامل لفسادها، بل كانت تموِّل فسادها تحديداً، قرّرت وقف الدعم ورفع الغطاء عنها.

 

على مدى عشرات السنين، كانت منظومة السياسة والسلطة تنهب المال العام وتكدّس الثروات غير المشروعة في مصارف خارجية. وكانت هذه الدول لا تتورع عن إسعافها بمزيد من الديون من الصناديق والجهات الدولية المانحة، لا سيما البنك الدولي الذي اعتاد الكثير من موظفيه ومسؤوليه مسايرة السياسيين اللبنانيين ومراعاة مصالحهم، والقبول بالمشاريع والتلزيمات غير الشفافة، على مرأى ومَسْمَع من الجميع.

 

تبدَّل المناخ، وبدأت الضغوط على الطبقة السياسية في العام 2017، مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض والتغيُّر في نهج الخليجيين العرب تجاه لبنان. ولم تنجح محاولات «اللملمة» التي لجأ إليها الفرنسيون من خلال «سيدر»، لأن القرار المتخذ أقوى منهم.

 

وهذا المناخ تصاعد في 2019 وتحوَّل حصاراً دولياً وعربياً خانقاً، وانفجاراً داخلياً على المستويات السياسية والاقتصادية والمالية والنقدية في آن معاً. وللمرة الأولى، أعلنت القوى التي اعتادت «تدليع» الطبقة السياسية أنها أوقفت «الدلع»، وأنها لن تعاود تقديم المساعدات إلا باعتماد الإصلاح.

 

في المطلق، هذا الشرط يبدو بديهياً. ولكن، ما الذي دفع هذه القوى إلى التمادي في تمويل الفساد اللبناني المفضوح، لعقود؟ وهل فعلاً جرت «تنمية» الفساد اللبناني قصداً بمليارات الدولار، في شكل ديون ثقيلة، للوصول ذات يوم إلى الوضعية التي وصل إليها لبنان؟

 

واستطراداً، على أي أساس تمّ اختيار العام 2019 لفرض الحصار الشامل، وفي شكل مفاجئ؟ ولماذا لم يُفرض مثلاً قبل عام أو عامين أو أكثر، أو بعد عام أو عامين أو أكثر؟ ولماذا تقرَّر مثلاً أن سقف إجمالي الدين الذي يتحمله لبنان هو 90 مليار دولار؟ ولماذا لم يتم وضع سقف عند الـ 70 ملياراً أو الـ 80 أو جرى الانتظار حتى ارتفع إلى 100 مليار؟

 

هذه الأسئلة الافتراضية توضح أن توقيت الانفجار المالي والنقدي تمّ تحديده سياسياً، وكان ممكناً ربما أن يستمر لبنان في «الجنّة المزوّرة» سنوات أخرى لو لم يتغيّر المعطى السياسي الخارجي. ويلتقي هذا الاستنتاج مع الكلام الذي يتردّد منذ ربع قرن على الأقل، ومفاده أن هناك اتجاهاً متعمّداً لإغراق لبنان في الديون، كي يسقط في أيدي قوى خارجية ستُملي عليه شروطها، فيفقد القدرة على المواجهة ويرضخ لما تريد.

 

والجميع يذكر ما قيل عن إلحاق لبنان الضعيف بمسار التسويات المقبلة إلى الشرق الأوسط، والتي قد يكون التوطين جزءاً منها. وهذه المسألة استهلكت الكثير من الجدل، إذ عمد البعض إلى تسويق فرضية تقول إن لبنان سيسدِّد كل ديونه دفعة واحدة عندما ينخرط في مشروع التسوية، ولا داعي للهلع من الديون مهما كبرت.

 

اليوم، وصل لبنان إلى التحدّي بكل فجاجة. فقد قطعت القوى الدولية والعربية حنفيات الدولار عنه، قصداً. وهي تطالبه بالتزام عنوان واحد هو الإصلاح. ولا يخفى أن المغزى الحقيقي للإصلاح المطلوب سياسي، ويتعلق بالجهة التي تُمسك بالقرار.

 

ولو كانت هذه القوى مهتمة بإصلاح المؤسسات في لبنان، من أجل الإصلاح فقط، فلماذا استمرت بدعم الطبقة السياسية وتمويلها على مدى عشرات السنين. وفي عبارة أوضح، لو رفع «حزب الله» يده عن السلطة واستمرّت منظومة السياسة فيها بكامل فسادها، هل كانت هذه القوى ستواصل حصارها للبنان أم سترفعه؟

 

والسؤال في شكل آخر: لو بقي «حزب الله» في السلطة ومعه المنظومة كلها، وبقيت عمليات نهب الدولة مستمرة، لكن الجميع رضخ للشروط السياسية التي تطلبها القوى الخارجية، هل كان الحصار سيستمر أم سيُرفع ما دام الهدف قد تَحقّق؟

 

في المقابل، هل كان «حزب الله» سيحتفظ بالمنظومة التي «تسوِّد وجهه» ويدافع عن وجودها معه في السلطة، لو انتهت المهمة التي تؤديها، ولو حُسِمت المعركة لمصلحته؟

 

يعني ذلك أن الحصار والإنهيار و»جنون» الدولار مقصودة سياسياً. ولا شيء ينفي أن تكون المنظومة السياسية، كلها أو بعضها، شريكة في هذه اللعبة، في شكل متعمَّد أو غير متعمَّد، بالجهل أو بالتجاهل، وسواء ضمن هذا المحور الدولي أو الإقليمي أو ذاك.

 

واستتباعاً، يعني ذلك أن جولة «الجنون» الحالية للدولار يراد تثميرها في «الجنون السياسي». والمرحلة المقبلة مؤاتية لهذا النوع من «الجنون» ولقطف ثماره السياسية على كل المستويات.